قبل بضع أسابيع تفضلت جريدة هسبرس بنشر مقال لي بعنوان: حديث المِرآة عن الدبلوماسية المغربية، نوهتُ خلاله بإنجازات الدبلوماسية المغربية، وناشدت بتغيير الجَرْس تجاه الجارة الجزائر وبالانفتاح على الجمهورية الإيرانية. كان المزاج العام للدبلوماسية المغربية، ولا يزال، جنّاحا للمماحكة ميَّالا للمنابزة والمناكفة، منتشيا باختراقاته إلى حد الثمالة. بدا المقال حينها سباحة إنشائية ضد التيار، خاصة وأني طالبت بالتوقف عن إثارة موضوع ”شعب القبايل”، واقترحت إفساح المجال للفضلاء في كلا البلدين، وما أكثرهم، لتصحيح العطب التاريخي والعبث السياسي.
قد وقع الحافر على الحافر وها هو أكبر فضلائنا، وفي أفضل مناسباتنا، يومئ إلى أبنائه أن كفوا ألسنتكم وأحسنوا الجورة. فحُقَّ ليَ ”الغرور” وجاز ليَ الحبور.
وقبل أكثر من أربع سنوات تقدم المغرب بطلب الانضمام إلى المنظمة الإفريقية. “الإكواس” أو “سيداو”، وكان الهوى العام، لصالح التحاق المغرب بهذا التجمع. فكتبت وقتها مقالا بعنوان: ملاحظات قَلقة حول انضمام المغرب إلى “الإكواس”، حذرتُ خلاله من المخاطر والمشاكل التي تتربص بالمغرب بعد انخراطه في تلكم المنظمة خاصة ما يهم فتح الحدود وتوحيد العملات. ولعل أحداث باب مليلية وما قبلها، وحتما ما بعدها، تؤكد مدى العنت والمشقة والجحيم الذي كان سيعانيه المغرب بين سندان الأخوة الإفريقية، ومطرقة الالتزام تجاه جيران ما وراء البحر. فحمدا لله الذي جنبنا صداعا كان سينضاف إلى ”صداعات” أخرى.
بيد أن ما أزّني إلى التذكير بهذا المقال ليس هو التحدث بآلاء الرحمان وألطاف الأقدار، ولكن ما اقترفتُه يومها من ”تجاوز المقام” والتوقف عند الخطاب الملكي في أديس أبابا ليوم 30 يناير 2017، والذي جاء فيه: “لقد خمد شغفنا بالمغرب العربي لأن الإيمان بمصلحة مشتركة قد اختفى. من الآن فصاعدا يعتبر المغرب أن الأسرة الإفريقية هي مرجعيته…”.
علقتُ بأدب جم يشوبه ما يستحق ولي الأمر من احترام كاتبا:
”قد يدفعنا اليأس من تصرفات الجيران إلى الصراخ والنياح، ورغم امتعاضنا الشديد من غلق الحدود يمكننا أن نتجرع ذلك ونتبعه بكأس الأمل… أمّا أن ننْحر حلم أمة على أعتاب مِحراب لسنا ندري مدى قدسيته، فالأمر مدعاة لتؤدة وحكمة أكثر… على العموم نتمنّى ألا يكون انضمامنا إلى أي تجمع بديلا عن المشروع التاريخي للاتحاد المغاربي… دَعونا من الخضوع لسطوة اللحظة… فليس الشديد بِالصُّرَعَةِ… والزمان دوّار…”.
نعم إن الزمان دوار، ودوام الحال من المحال. فأكرمُ بها من مرآة تلك التي أوحت إلى ملكنا أن يصحح اتجاه البوصلة، ويترفع عن السفاسف ويسمو فوق العبث.
ابتدأنا هذه الخاطرة بعبارة ”الغرور المشروع” وهي عبارة وصف بها الدكتور يحيى اليحياوي شعوره حينما طلب منه المرحوم المهدي المنجرة تقديم إحدى كتبه. من جهتنا سنستعمل عبارة ”التمنّع المشروع” وهو سلوك سننتظره من المسؤولين الجزائريين تجاه المبادرة المغربية. لن نحاول تحليل تاريخ العلاقات المغربية الجزائرية، ولن نفكك شفرات ”غسيل الدماغ المشروع” الذي مارسته كلا الدولتين تجاه شعبيهما. سنتوقف عند مشكلة إغلاق الحدود ونقول باختصار مُخل ما يلي:
بعدما أصبح حلم الاتحاد المغاربي يتراءى في الأفق، وقعت الحادثة الإرهابية المعروفة بأطلس إيسني، اتَّهمَ المغرب المخابرات الجزائرية بالضلوع في العملية فعاقب كل الجزائريين بأن فرض التأشيرة عليهم دون أدنى استشارة مع النظام الجزائري. كنّا وكانت ما سمي بالعشرية السوداء في الجزائر وكان الجيش الإسلامي للإنقاذ والحركات الإسلامية المسلحة والجيش النظامي وكان الهرَجُ والهرْج. وكان إغلاق الحدود… وانفلتت الصخرة مرة أخرى من يد سيزيف، وأُجهِض الحلم، واستلَّت الألسنة الحِداد… الحكرة… المؤامرة … الصحراء الغربية… لا بل الصحراء الشرقية وتيندوف وحدود ما قبل الاستعمار… ولائحة لا تنتهي من الشتائم والملاسنات والاتهامات تبتدئ في المقاهي والمجالس الخاصة لكي لا تنتهي في الأمم المتحدة مرورا بالإعلام والوسائط الاجتماعية بل وحتى الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم.
يُنقل عن أنشتاين أنَّا لا نستطيع حل المشاكل المستعصية بنفس العقلية التي أوجدتها، فالجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة. ولعله أبلغ وصف للعلاقة بين المغرب والجزائر.
قلنا إذن إن صناع القرار في الجزائر سيردون على المبادرة الملكية بنوع من ”التمنع” لأنهم يحسون بنوع من ”المظلومية” و”الطعن في الظهر” الذي مارسه المغرب، هكذا يظنون…. وكأن السيد رمطان العمامرة استبق الخطاب الملكي بأسابيع حين نفى وجود أي وساطة سعودية بين المغرب والجزائر عندما صرح قائلا: “لا وجود لأي وساطة بين الجزائر والمغرب، لا أمس لا اليوم ولا غدا إن شاء الله”.
ابتسامة حزينة ترتسم على محياك وأنت تقرأ عبارة ”إن شاء الله” طبعا لن نقف عندها كثيرا، كل ما يمكن قوله من باب المناكفة دائما: بل لا شاء الله… أو ربما قلنا: طبعا، نحن أيضا لا نريد أي وسيط، لأنا نريده حوارا مباشريا أخويا… رحم الله أبا تمّام وهو القائل:
ليسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ في قَومِهِ لَكِنَّ سَيِّدَ قَومِهِ المُتَغابي.
لسنا نشك في حسن نية الملك حين مد اليد وحضّ على تلطيف الأجواء، كي لا يعلو صوت فوق صوت العقل. كل ما نتمنى أن يتم تنزيل التوجيهات الملكية وتبنيها كاستراتيجية لا كتكتيك. ولسنا نشك في أنّا سنلفي ردود أفعال شتى، فمُعرِضٌ ومعترض، وهازئ وشامِت، ومستحسِن ومستهجن. فهلّا كظمنا الغيظ ودفعنا بالتي هي أحسن، حتى إذا بُحت حناجر السوء انبرى الفضلاء لاستدراك ما ضيعناه من وقت وجهد.
أتُرانا نطالب المغاربة بالدروشة وإعطاء الدنيّة، أم ترانا نواجه مْشكلة بغير العقلية التي أوجَدَتها.
“مغرور غير شرعي” سأكون إن استمرأتُ الكلام واستطبتُ التنظير وطفقت في تدبيج التوصيات ورسم خرائط الطريق لحل الأزمة الحقيقية الثاوية الرابضة وراء باقي الأزمات والمفرِّخة لها… أزمة دامت أكثر من ستين سنة، تداخل فيها التاريخ والجغرافية بإسبانيا وفرنسا وبترول وفوسفاط وبحر ودماء ورمال وفرص مهدورة وشعوب مقهورة.
ومن مهاد الهنا والآن نصرخ ملء الفاه: يا باغي الإصلاح سِرْ فلا كبا بك الفَرَس.