سنة أخرى تطوى وتذكر برحيل مسهمٍ في إشعاع الكتاب والثقافة المغربيين، قيدوم الناشرين الحاج محمد القادري الحسني، الذي أسس وقاد “دار الثقافة للطبع والنشر”.
وكان الفقيد أول ناشري كتب أعلام مثل المفكر المغربي البارز محمد عابد الجابري، وأديب الطفل العربي بنجلون، فضلا عما أغنى به المكتبات المغربية والعربية، في مجالات متعددة منها الفلسفة والتاريخ والأدب والنقد وأدب الطفل، مع اهتمام داره المستمر بالكتاب المدرسي.
العربي بنجلون قال، في ذكرى الرحيلِ الثانية، إن الحاج محمدا القادري “أسدى لي وللثقافة المغربية فضلا كبيرا”.
وتابع الأديب المغربي ذاته: “كان أول من حفز المفكر المغربي محمد عابد الجابري على إصدار دراساته وبحوثه (…) كما شجع الكثير من الأدباء المغاربة على الكتابة للطفل؛ ومنهم الأديب الراحل أحمد عبد السلام البقالي، الذي نشر له كل رواياته للأطفال والفتيان. ولا ننسى مئات الموسوعات الأدبية والفلسفية والتاريخية، التي لولاه لما رأت النور”.
بدوره، تذكر الشاعر والناقد صلاح بوسريف الفقيد قائلا إنه “قيدوم الناشرين المغاربة، وكان من بين الأوائل الذين شرعوا في النشر بالمغرب، إلى جانب السلَمِي صاحب (دار السلمي)”؛ وهو “لحظة مهمة جدا في دعم الكتاب الفكري والنقدي والكتاب الإبداعي أيضا، والكتاب الشعري، والقصة والرواية وغيرها من المجالات. فقد نشر عددا هائلا من الكتب”.
وتابع بوسريف في تصريح لـهسبريس: “كنت دائما أناديه بـ”الشريف القادري”، الصفة التي كان يناديه بها الجميع، تقديرا له واحتراما له كإنسان كانت له مكانته، وخدم الثقافة المغربية؛ لأن ما لا يفهمه المثقف هو أن الناشر ليس مجرد جسر يعبر منه الكاتب من ضفة إلى أخرى، بل هو شخص كان بإمكانه أن يتاجر في أي شيء آخر غير الكتب، ما دامت لديه أموالٌ، لكن أن يختار مجال الكتاب وأن يختار مجال النشر بصعوباته ومشكلاته وعوائقه فهذا معناه أن الرجل ينتصر للثقافة عموما، وينتصر للثقافة المغربية بصورة خاصة”.
وعاد بوسريف إلى زمن التلمذة بمراحل التعليم الثانوي، قائلا: “شرعت أذهب إلى الأحباس بالدار البيضاء على اعتبار أنها المكان الذي توجد فيه مكتبات كبيرة وكثيرة أيضا، مغربية وغير مغربية. هذه المكتبات كانت بالنسبة لي لحظة الضوء، فكثيرا ما كنت أتملى الكتب رغم أني لم أكن أستطيع شراءها. وبين هذه الدور هناك دار الثقافة، وقد تميزت بشيئين، الكتاب المدرسي ونشر الكتابات المغربية”.
وأضاف الشاعر: “أول عمل للجابري “العصبية والدولة” حول ابن خلدون، نشره بدار الثقافة، وكان كتابا مجلدا، وليس وحده، بل مجموعة من الكتاب المغاربة، سألتحق بهم فيما بعد. الأهم هو أن القادري كان هو الذي يدير هذه الدار، وكان رجلا في أصله يبيع الكتب في الشارع العام، قبل أن تكون له مكتبة، وفيما بعد سيقتني حانوتا صغيرا في منطقة الأحباس وسيكون انطلاقته لتتأسس فيما بعد دار الثقافة”.
وزاد بوسريف: “كانت لي علاقة بالقادري حيث كان يستشيرني في بعض المنشورات، وبعض الأمور المتعلقة بالدار وسياستها، وأيضا كنا نجلس في أغلب الأحيان في مكان ما، في مكتبه أو خارج مكتبه ونتداول حول مشكلات النشر والتوزيع، وكنت أختلف معه دائما حول أن الناشر لا يختار ما ينشره من أجناس كتابية، كأن يرفض الشعر، وكان يبرر هذا بأن الشعر لا يروج في السوق؛ في حين كنت أدافع عن الشعر قائلا إن الناشرين هم من عمدوا إلى وضعه في هذا المأزق برفضهم لطبعه، علما أن الناشر يعرف كيف يروج الكتاب ويوصله إلى الآخرين”.
و”لم يكن القادري رجلا منغلقا، بل كان منفتحا”، بالنسبة للشاهد على مساره؛ فـ”بقدر محافظته وبقدر تدينه وأصالته، وهو من الأصول العميقة لمدينة فاس، كان أيضا حداثيا منفتحا، ليس الحداثة المفرطة في التحديث، بل كان يأخذها بحذر”.
لذلك، واصل المصرح: “كان هذا الرجل حين يُقبل على نشر عمل ما يفترض أن هذا العمل لا بد أن يحافظ على شرط أساسي هو ألا يتجاوز حدود ما كان يسميه باللياقة وباللباقة وبالحفاظ على مجموع القيم التي كان يؤمن بها ويدافع عنها. وفي حوار تلفزيوني مع إحدى القنوات المغربية، عندما سُئل عن لماذا لا يوجد كتاب محمد شكري “الخبز الحافي” في مكتبته؟ قال هذا الكتاب لا يساير سياسة الدار، وسياسة النشر فيها، وفيه أشياء لا نستطيع أن نروجها وأن ندافع عنها”.
وعلق بوسريف قائلا: “هذا اختيار ثقافي في الحقيقة، واختيار مرتبط بسياسة الدار، أحترمه وأقدره وأختلف معه في الوقت نفسه. وبعد البرنامج قلتُ له في الوقت الذي ترفض شكري تروج لأبي نواس، بمعنى أن المسألة تحتاج التفكير فيها بصورة أخرى؛ فهذا كتاب رائج وموجود في السوق، ومسألة أن يوجد في الدار مسألة اختيار القارئ، فأنتم لا تقومون بالدعاية له بل هو كتاب ضمن كتب أخرى، ووجوده مرتبط بأن الدار مغربية وينبغي أن تحافظ على الثقافة المغربية”.
وحول حفاظ “دار الثقافة” إلى اليوم على “الكتاب المدرسي كشرط من شروط وجودها”، تذكر صلاح بوسريف جواب “الشريف القادري”، الذي قال فيه: “هذا الكتاب يساعدنا على أن نفتح مجال النشر، دونَ أن تكون لدينا خسارات كبيرة”، وهو جواب يفهم في إطار “مشكلة القراءة في المجتمع المغربي اليوم، التي هي معضلة حقيقية مطروحة بشكل كبير، وأساسها هو المدرسة التي لا تربي على القراءة وعلى الكتاب، ولا توجد فيها مكتبات، وحتى إذا وجدت فهي مغلقة، أو أن الكتب الموجودة فيها منذ التسعينيات لم يتم تحيينها بكتب أخرى جديدة”.
وحول شهاداته المحتفية بالناشر الفقيد محمد القادري، حيا وراحلا، قال بوسريف في ختام تصريحه لـ هسبريس: “كل من ما زال ناشرا، رغم ما يمكن أن يكون له من آراء حول النشر أو بعض أنواع الكتابة، أقدره وأحترمه؛ لأنه يدخل ضمن نقطة الضوء التي ما زالت موجودة في هذا المجتمع، وهي النشر والكتاب والثقافة ودعمهما، والترويج للكتاب المغربي في المعارض العربية والدولية”.