كلما قرأنا جديدا في هذه اللغة أو تلك، ازددنا قناعة بأن الحس الإنساني، والعقل البشري، والتعبير والتفكير الآدميين، ينمو ويتنامى لجهة التقدم المتواصل والتطور الحثيث.
وليس من شك في أن الجديد إياه، آت من ما يعتري الواقع والمعيش، والحياة بعامة، من إيقاع وتحول مسؤولين بمقدار عن التراكم المعرفي اللافت والمدهش والغريب من حيث مجالاته، ولغته، وأسلوبيته، ورؤاه، ما يدفعنا إلى طرح السؤال على عشرات الكتب الورقية، وعشرات المواقع الإلكترونية، والوسائط الاجتماعية: هل في الأمر تحول حقيقي لبنية ومورفولوجية الإبداع والفكر من جهة، ولباطنيته وجوهره من جهة أخرى؟، وإلى أي طرف يعزى التجديد “الانقلابي” إذا كان، و”الشقلبة” الفكرية والإبداعية إذا تمت وتحققت؟ وهل في ما نطالع، ونقرأ، ونستقرئ، ونستبر، نور يبدد الظلمة، وضوء يخترق سجف الجهالة العمياء؟
ثم، ألا يرسم الأدب الجديد مُهَجّنًا على مستوى الأجناس، أو صافيا وفيا لخطوطه وحدوده كما رسمت منذ أرسطو، وتكرست بعد أرسطو، قطيعة بالمعنى اللغوي والإبستمولوجي؟ أي ما يفضي إلى القول بأن الألفية الثالثة في عقديها الحاليين، شهدت، وتشهد طَمْرًا يكاد يكون كاملا لكتابات، وأنماط من التفكير، سادت وهيمنت قبل عقود حتى لا نقول قبل مِئِينَ وقرون؟ إذ في الإقرار بالتحول والجديد القشيب الذي قطع مع الفائت، وأصبح يُنْظَرُ إليه “بغضب” وَتَخَطٍّ، يكمن عمق السؤال، وأساس الشك والارتياب من كون القطع عمل على قتل الأب، واغتال -من ثمة- بناته ونساءه، ومورثاته، وفيه ما يدل على الرغبة في احتياز وامتلاك أولئك “النسوة”، وإجبارهن على التزوج بـ “الربيب” إنْ أَنِفَنْ التزوج بـ “الابن”؟
لكن، كيف يستقيم منطقيا، الإبقاء على “نساء” الأب المقتول، وهن وريثات صولته وضعفه، تَدَايُكِهِ وانكسار شوكته في أحوال مختلفات طالما أن البقاء الأبدي غير ممكن، والشباب السرمدي مستحيل ومعدوم؟
“النساء الأدبيات” ورقيا، رقيقات، ضعيفات، خنوعات، ملبيات، يَطِرْنَ حثيثا إلى الفحل، ويستجبن لشبقيته راضيات أنَّى شاء، ومتى شاء.
وفي هذا ما يفترض هيمنة المكون الديني في تفسيره البشري الحجري، المنفعل بالحضور، والساعي إلى التمظهر والظهور على حساب قَسِيمِهِ البيولوجي- الطبيعي الإنساني المتمثل في المرأة.
من هذا الضعف والقناعة المفروضة الملتبسة التي لُقِّنَتْ للأنثى عبر التاريخ، يستمد “الفكر” و”الأدب” شراسة مواصلة ثوائه في الكتابة الجديدة، وفي الآن ذاته، نعومة تعبيراته، ومشاكسته لبنية العقل، واللغة وفقا للسيرورة، والصيرورة الزمكانيتين، والروحيتين.
بمعنى أن “القديم” بشكل أو بآخر، يستمر حاضرا حضورا محتشما، أو مُواربا أو متواريا أو فاقعا، ولكنه يستمر في كل الأحوال. يؤيد ما نذهب إليه، مفهوم “العود الأبدي” الذي تحدث عنه “نيتشه”، وضرورة الإنصات إلى “الآباء” الروحيين الكبار، والوقوف مليا أو سريعا، أمام مراياهم الشاسعة التي يَنْعَكِسُ عليها شعاع الشمس الأدبية المتوهجة، وأنوار العبقرية الإبداعية والفكرية المتوهجة مخترقة الأزمنة والعصور، والتواريخ، والجغرافيات، والتلقيات.
وتؤيده السباحة في الماء نفسه، وإن غير مجراه في كل آونة وآن، وإن زعم السابحون -الأدباء- أنهم يعومون في أحواض مكيفة ماؤها لازوردي مانع، يتغير كل هنيهة، ونساؤها يغنين -طوال الوقت- هاتفات مادحات للسبق بينهم، لمن يسبح على الظهر كخنفساء مقلوبة، ومن يحاكي الضفدعة، ومن يماشي الفراشة، ومن يخبط خبط عشواء بيديه، ورجليه، مشكلا صخبا وهياجا، ومثيرا خوفا غير معلن من أن يرسب وينزل إلى القعر من دون حراك كمثل جثة بدينة زرقاء.
كيف نقتل الأب وهو فينا؟ كيف نصير إلى كتابة أخرى وهي لَصْقَنَا، تدور بنا، وتُلَوْلِبُنَا نزولا وصعودا، جيئة وذهابا، يمنة ويسرة.
ولئن داورنا الإبداع وأنشأناه خلقا آخر، فإن اللغة تحكمنا، ومخيال آلاف الموتى يسكننا، والقواعد المبدئية المعيارية التي وضعت للآداب والفنون، تتغلغل في دخائل كتاباتنا وآرائنا، ووجهات نظرنا حتى وإن طمسنا الحدود الأجناسية في ما نبدع ونكتب، وخَوَّضْنا “صفاء” البحيرة الأدبية الهادئة، برمي الحصى الاجتهادي الكثير فيها، فهي لا تلبث أن تعود إلى سكونها وهدوئها، وسيرتها الأولى وخلقها الخام، بعد أن تنعقد تشكلات حلزونية رائعة، ودوائر مُفَلَّكة بديعة.
نعم، نجح الاجتهاد، وذلك من حتميات التطور ونتائج البحث والحفر والتنقيب، في إرساء كتابات جديدة مُهَجَّنة أي يجتمع فيها ما هو شعري بسردي، بتشكيلي، بموسيقى، بمسرحي، بقصصي. بيد أنه اجتهاد داخل الاجتهاد من حيث إن “الأب” أعطى “عندياته”، وسفح دمه الأخضر المُهْراق على بياض وسواد الكاغد والقرطاس والورق، والرقن على مستوى الحرف والكلمة والجملة والفقرة والنص. ولنا أن نُقَصْقِصَ أجنحة “عندياته” التي يَبَّسَها الزمن فما عادت بقادرة على التحليق، ولنا أن نخلخل الهمود والجمود الجاثمين على مستوى الركبتين، ثم لنا أن نضخ دم العصر، ورؤية المعيش، ورؤيانا بفضل الفتح العلمي والتكنولوجي، والمعرفي المعولم لـ “مخلفات” آدابنا، وثقافتنا الماضية التي نعتقد أنها بحاجة إلى اطرّاح؛ وانقلاب؛ وَرَجٍّ؛ وتشذيب في أقل حال.
هل هذا ما يفعله ويقوم به الأبناء، حملة المشعل المعرفي والإبداعي اليوم؟
نعم، بالتأكيد. فالتطور سُنَّةٌ سارية في الخلق، مركوزة وفاعلة بما لا يقاس، وكل من عاداه، ينقرض ويتلاشى. والاجتهاد مصدر وجسر –في آن- إلى الانفتاح، والاستلهام، والاستيحاء من ثقافات وحضارات، وهويات الآخر والمغاير، والذي لا مندوحة لنا عنه ولا سبيل إلى إبعاده واستبعاده، وإلا دُرْنَا على واقعنا وأنفسنا كما تدور الرحى الحجرية وهي تهرس وتجرش الزروع والقطاني.
ومن ثمة، فقتل الأب غير ممكن، إذ في قتله، ارتماؤنا المُدَوِّي في الهوة المتكلسة السحيقة، والعدم المصنوع، والمحو الهُوَّياتي النهائي، والعودة إلى الكهف الأسطوري حيث النيران والظلال المنعكسة فقط، والإدبار الكلي عن الحركة والحياة.
وإذن، فإن في الأدب والفكر الإنسانيين العربيين أو غير العربيين، الماضي المضيء الذي لا مناص منه، والنبوغ الذي نحن في حاجة إليه لأنه يمدنا بطاقة التجلي، والتحلي بفضيلة الإنصات والإفادة، والاستقراء، والاستنباط لفائدة حاضرنا إذا اكتشفنا ووقفنا على عقمنا في ردم هوة معرفية أو فكرية ما. كما فيه تلك الأنساغ الإبداعية التي لا قَبِلَ لنا بتسميتها، والتي لا تَنِي تدهشنا بحركتها الداخلية بين الخلايا والجينات، وبجبروتها، الذي لا مَرَدَّ لهـ في اختراق الأزمنة والأمكنة، والحواجز التاريخية المختلفة.
الكتاب وفير ومتعدد. لِنُخْرِجهُ من صمته، ونُنْزِلُهُ من الرفوف التي تكدس عليها الغبار، ولتمتد الأيادي لتنتشله من النسيان، وتنتزعه من وهدة الإغْضَاء والإهمال، ومن الإبعاد التاريخي المترصد، والاغتيال الممنهج المتواصل بفعل فاعل تاريخي ومستمر.
إنني أقصد الكتاب الفكري والإبداعي المُغَيَّبَ، والمُخْتَطَفَ الذي لا يعرفه الجمهور العريض من القراء، ولا المدرسة والجامعة اللتان ما فتئتا تعيدان إنتاج نفس الأفكار الذابلة، والمنظومة الإيديولوجية التي تخدم السلطة، وصانعي القرار.. صانعي السياسة التعليمية، و”الثقافية” في البلاد.
في ذلك الكتاب بغيتنا وإنسانيتنا، وكونيتنا، ووجهنا المشرق الوَضَّاح، وهويتنا المتفتحة الغنية، واجتهادنا الذي يزداد، مع توالي السنين والأحقاب، التماعا وتلألؤا وتوهجا.