علاقتنا بفرنسا يكتنفها الكثير من الالتباس والارتباك، لأسباب تاريخية وثقافية عديدة، فهي الدولة الاستعمارية التي احتلت بلادنا، ذات تاريخ، وسطت على خيراتنا ومدخراتنا، وأذاقتنا ألوانا من التنكيل والإذلال، باسم الحماية وشروطها المجحفة المعروفة، وما زالت وإلى اليوم حريصة على إدامة هذه الحماية بأشكال مختلفة، وتطبيقات متنوعة، اقتصادية وثقافية وسياسية، وبالتعاون طبعا مع بعضنا هنا، وفرنسا من الوجهة المقابلة هي صورتنا الأخرى التي نظل نبحث عنها ونريد أن نكونها فلا نستطيع، هي لغتنا الثانية التي نحبها، بل ونريدها أن تكون لغتنا الأولى، رغم كل دفوعاتنا العاطفية، والكاذبة في أغلبها، ونخلطها بدارجتنا، لأننا لا نتقنها، ولأننا لا ندري، ولا نريد أن ندري، معنى أن تكون لنا لغة، وفرنسا أيضا هي حداثتنا المعطوبة، هي مرآتنا المكسورة، هي جزء معتبر من ثقافتنا الأخرى بالقوة، وهي جزء كبير من اقتصادنا الذي يرهن مأكلنا ومشربنا وأذواقنا.
لكل هذا، ظلت فرنسا، وستبقى إلى حين، أحد أسئلتنا الإشكالية والشقية، التي تتطلب منا جوابا، ثقافيا أولا، وسياسيا ثانيا، فماذا نأخذ من فرنسا وماذا نترك؟ وهل نملك أن نأخذ منها ما نشاء أو ندع؟
بالأمس القريب، شهدت فرنسا إجراء انتخابات تشريعية أسفرت عن نتائج اعتبرت مفاجئة، لأنها جردت الرئيس ماكرون من أغلبيته المطلقة داخل البرلمان، وضاعفت في المقابل مقاعد حزب التجمع الوطني المتطرف، كما رفعت من قوة تحالف اليسار، بدخول جون لوك ميلونشون إلى المعترك، ويجري الحديث اليوم، بالنظر إلى هذه النتائج، عن أعطاب الديمقراطية، وإمكان التفكير في تنويعات، ومخارج نظرية جديدة لهذا الإنحسار الذي يشهده النظام الديمقراطي أحيانا.
لكن الملاحظ، أنه وبالرغم من كل هذا الذي حدث، وهذه النتائج التي اعتبرت مثيرة، فالقضايا الأساس التي تنتظر المنتخبين في فرنسا، تظل واضحة: إصلاح التقاعد، الرفع من القدرة الشرائية للمواطنين، معالجة مشكل البيئة، وتأتي بعدها القضايا الأخرى، ثم التي تليها.
هل يمكن أن نقارن بين هذا المشهد الذي تصنعه فرنسا وبين ما تشهده سياستنا وانتخاباتنا؟ لماذا لا نريد أن نستفيد الاستفادة المطلوبة ونفضل دوما دور المتفرج المنبهر الذي لا يدري ما يفعل ولا يريد أن يفعل؟
يتابع بعض نخبنا النقاش السياسي في فرنسا، ثم يمارسون السياسة بلا فكر ولا علوم، ولا أخلاق حتى، ويعتبرون الإعلان عن النتائج، نهاية كل شيء، فتنطلق الاحتفالات والولائم، وتبادل التهاني بالدارجة المخلوطة بالفرنسية، لماذا لا نستفيد؟ ولماذا نقبل بالتعايش مع التناقض باستمرار؟
نمجد فرنسا وننبهر بنموذجها، سلبا وإيجابا، ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، وحين نأتي إلى تطبيقاتنا المحلية، وتدبيراتنا الخاصة، ننسى، ونريد أن ننسى، كل شيء، هل نعتبر أنفسنا غير معنيين بكل تغيير أو تجديد أو تقدم يهم بلادنا وقضاياها الجوهرية فنهرع إلى تزجية زمننا السياسي في المناكفات الشخصية والحزبية بدل مطارحة البدائل والحلول والبرامج؟ هل نعتبر أنفسنا أصغر من أن نكون صورة أخرى لفرنسا الأنوار التي قهرتنا ذات أيام كما نريد وندعي ونتحدث باستمرار؟ هل هي عقدة الغالب الذي نصر على إدامة حمايته الاقتصادية ووصايته الثقافية علينا رغم كل خطاباتنا الهوياتية العاطفية وضجيجنا الذي لا ينتهي؟
نحب فرنسا ونكرهها في آن، أو نكره لأنفسنا ما لفرنسا، على الأصح، ونصر على ذلك بشكل غريب؛ هذه هي صورتنا التي لا نريد تغييرها، وربما أيضا لا يراد لها أن تتغير.