قال عبد السلام انويكة، عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث، إن “شارل دوفوكو Charles de Foucauld كان أهم رحالة فرنسي توجه بعنايته لموضوع المغرب، من خلال رحلة شهيرة دوّنها في مؤلف بعنوان ‘التعرف على المغرب Reconnaissance au Maroc’، تلك التي يعود أول تماساتها بالمغرب إلى بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر”.
وأضاف الباحث، في مقال له بعنوان “عندما حَل شارل دوفوكو متنكرا في زي يهودي بالمغرب..”، أن “رحلة دوفوكو حققت نتائج ميدانية بالغة الأهمية من الوجهة العلمية التاريخية، تلك التي تعد مرجعا للباحثين في تاريخ المغرب، علما أن دوفوكو دخل البلاد متنكرا في زي يهودي عبر طنجة قادما من الجزائر، وكان هاجسه استكشاف مناطق كانت لا تزال مجهولة متحديا وعورتها الطبيعية ومخاطرها البشرية”.
وبعدما ذكر جوانب متنوعة من رحلة دوفوكو، ختم عبد السلام انويكة مقاله بالإشارة إلى أن “الباحث يجد في نصوص الأجانب الاستكشافية الاستعمارية، رغم ما يسجل حولها من ملاحظات، معطيات بقدر كبير من الأهمية، سواء حول طبيعة علاقة المدينة بمحيطها خاصة قبيلة غياتة، أو علاقة هذه الأخيرة بالمخزن خلال فترة ما قبل فرض الحماية على البلاد”.
هذا نص المقال:
غير خاف عن باحثين مهتمين بزمن المغرب المعاصر ما كان للمعلومة الاستكشافية الاستعمارية من دور معبر في احتلال البلاد وفرض الحماية عليها عام 1912، علما أن هاجس أطماع فرنسا فيها بدأ منذ مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر بعد احتلالها للجزائر؛ وهو ما تقوى بشكل معبر بعد هزيمة إيسلي 1844 وبعدها تطوان 1860. هكذا، توفرت شروط توغل الآلة المعرفية الاستخباراتية الأجنبية لجمع ما من شأنه فهم ذهنيات وعقليات واعتقادات وقبائل وأنماط عيش ونقاط قوة المغرب وضعفه. وهكذا، باتت معطيات المستكشفين بنوع من التوازن في حسابات القوى الاستعمارية الأوروبية عموما خاصة منها الفرنسية، وهكذا أيضا ما ملأ قراءات البعثات التعرفية من معلومة همت أكثر من مستوى فضلا عن أحكام مسبقة وغيرها من تجليات. وكان عبد الله العروي قد أورد، في مجمله حول تاريخ المغرب، أن من سوء حظ الأخير كون تاريخه خلال هذه الفترة كتبه هواة بلا تأهيل وجغرافيون بأفكار براقة وموظفون ادعوا علما وعسكريون تظاهروا بثقافة ومؤرخون بلا تكوين لغوي، وهو ما كان وراء بلورة خيوط حول زمن البلاد بافتراضات عدة لا غير.
ولعله واسع ومتعدد الجوانب ما كتب حول المغرب من قبل مستكشفين أجانب سواء قبل فرض الحماية عليه أو بعدها، خاصة ضمن هذا التراكم التعرفي ما أنجزه المستكشفون الفرنسيون. وكان شارل دوفوكو Charles de Foucauld أهم رحالة فرنسي توجه بعنايته لموضوع المغرب، من خلال رحلة شهيرة دوّنها في مؤلف بعنوان “التعرف على المغرب” Reconnaissance au Maroc، تلك التي يعود أول تماساتها بالمغرب إلى بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر، وعيا منه بكونه وجهة لاحقة ضمن مشروع فرنسا الاستعماري بشمال إفريقيا. تعلم هذا الرحالة اللغة العربية، وانفتح على الدين الإسلامي، إلى جانب اللغة العبرية. وهكذا، دخل البلاد عام ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين مستفيدا من ضيافة ودعم يهود هنا وهناك بين مدن وقرى عبر ما اختاره من محطات ومسارات. وكان قد اختار التوجه إلى فاس مستهدفا من خلالها استكشاف شرق البلاد عبر تازة. ويسجل حول تقرير دوفوكو عن المغرب خلال هذه الفترة الدقيقة أهميته التاريخية وما هو عليه من معطيات وملاحظات دقيقة، فضلا عن وصف مجالي ورسومات مرفقة وغيرها.
ويسجل أنه رغم الظروف الصعبة التي أحاطت بها، حققت رحلة “دوفوكو” نتائج ميدانية بالغة الأهمية من الوجهة العلمية التاريخية، تلك التي تعد مرجعا للباحثين في تاريخ المغرب كما يذكر محمد حجي رحمه الله في تقديمه لترجمة المؤلف قبل حوالي ربع قرن. علما أن دوفوكو دخل البلاد متنكرا في زي يهودي عبر طنجة قادما من الجزائر، وكان هاجسه استكشاف مناطق كانت لا تزال مجهولة متحديا وعورتها الطبيعية ومخاطرها البشرية.
ولعل بعد سفره الأول صوب تطوان وبعد جولته في شفشاون وبعد ما حصل من إقامة له بفاس، ارتأينا في هذه الورقة إلقاء بعض الضوء حول سفريته إلى تازة وممرها الإستراتيجي الفاصل بين شرق البلاد وغربها. وكان التنقل صوب هذه الأخيرة من فاس خلال هذه الفترة الدقيقة من بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر يتم عبر مسلكين رئيسيين؛ الأول منهما يسير باتجاه وادي إيناون عبر مجال قبيلة الحياينة وقبيلة غياتة، رغم أنه مسلك بمسافة قصير لم يكن يستعمل لأسباب مجالية وأمنية معا. وأما المسلك الثاني فهو الأكثر استعمالا وأمنا وسهولة مجالية، وكان يمر عبر بلاد الحياينة ثم التسول ثم مكناسة.
ويذكر دوفوكو في تقرير رحلته باتجاه تازة أنه أمام مخاطر الطريق بالنسبة للأجانب، اختار السفر تحت حماية رجل بنفود قوي لدى المخزن وقبائل المنطقة، لعله سيدي الرامي كما يذكر وهو مقدم زاوية مولاي إدريس دفين فاس الذي وضع رهن إشارته شخصا يسمى “بن سمحون” أحد عبيده؛ وذلك من أجل مرافقته إلى تازة عبر هذا المسلك الذي قليلا ما يتم اتباعه. هكذا، بدأت الرحلة من نقطة باب الفتوح بفاس صبيحة نهاية يوليوز من سنة 1883، لتصل الى وادي إيناون الذي خصه دوفوكو بوصف دقيق متحدثا عن عمقه وسيله ولون مياهه ومجال جريانها كذا قعر الوادي وما يحيط به من نبات دفل وغيره، هذا قبل بلوغ فج عميق شهير بـ”الطواهر” غير بعيد عن تازة من جهة الغرب، وقبل بلوغ نقاط مخرج مسيل وادي ايناون بالمنطقة ومن ثمة مدينة تازة، التي أورد عنها دوفوكو أنها تنتصب على صخرة بعلو حوالي ثمانين مترا فوق مجرى واد “الهدار” بجوارها وبحوالي مائة وثلاثين مترا فوق وادي إيناون، وأنها توجد ضمن سلسلة جبلية عالية محاطة بأجراف وعرة من جهة الغرب والشمال الشرقي، مضيفا أن ولوجها لا يمكن إلا عبر جنوبها الشرقي، مشيرا الى أن المدينة محاطة بأسوار مزدوجة في بعض أمكنتها، وأن هذه الأسوار كانت بأهمية في الماضي كتحصينات خلافا لِما لواقعها آنذاك عندما جردها في وصفه من قيمتها وأهميتها العسكرية.
وعن تازة لما دخلها أشار إلى ما هي عليه من بساتين بمساحة مهمة في قسمها الجنوبي داخل السور، ولِما بها من أجزاء مغطاة بمزروعات في اتجاه الشرق والغرب، فضلا عن بساتين خصبة بجميع الجهات تأتي مياه سقيها من واد الهدار وبعض مسيلات الجبل، مضيفا أن هذه البساتين تشكل ما يشبه غابة بأشجار كثيفة مثمرة عالية ربما لا مثيل لها بالمغرب كما يذكر. معرجا في حديثه على ساكنة المدينة التي قال إنها بحوالي أربعة آلاف نسمة ضمنها مائتا يهودي يعيشون في ملاح صغير، مضيفا أن المدينة هي بمساجد أربعة بين كبير وصغير فضلا عن ثلاثة فنادق ذات موقع جيد لكنها خالية ومتقادمة في وصفه لها.
ويذكر دوفوكو في تقرير رحلته هذه أن تازة تدخل ضمن بلاد المخزن، لكنها واقعا توجد تحت سلطة قبيلة غياتة؛ وهو ما يجعلها – يقول- من أشد المدن بؤسا، بحيث رغم وجود قائد ومعه حوالي مائة مخزني يعيشون في مشور المدينة لا يجرؤون على تجاوز أسوارها بحيث قبيلة غياتة تعتبرها أرضا تابعة لهم. وعليه ما يقومون به من سلب ونهب ومن سفك لدماء من لا يمتثل لأوامرهم، بل تفرض غياتة حصارا مستمرا عليها ولا أحد من أهلها يجرؤ على مغادرتها، وكل من يغامر دون زطاط قد يعرض نفسه لسطو وسوء معاملة وربما لقتل ولو على بعد مائة متر من سورها المحيط، إلى درجة أن الشخص لا يمكنه الذهاب بمفرده لجلب الماء من واد تازة المجاور “الهدار”.
ويصف دوفوكو في تقريره بأن تازة مدينة مكتظة بأفراد قبيلة غياتة داخل الأسوار، مشيرا إلى أن المتسكعين منهم عدد كبير في الأزقة هنا وهناك فضلا عن الجالسين منهم أمام أبواب وفوق سطوح دور وهم بسيوفهم وبنادقهم التي لا تفارقهم، مضيفا أنهم يستقرون حيث ما طاب لهم ويرغمون أهل المدينة على تقديم الأكل لهم، وإن وقع بصرهم- يقول دوفوكو- على شيء ما أخذوه، مشيرا إلى أنه خلال يوم السوق حيث يكون عددهم كبيرا مقارنة، لا يتجرأ أحد على المرور بأزقة المدينة خوفا من أن يؤخذ منه متاعه بالقوة، بل من جملة ما أشار إليه حول واقع عدم استقرار المدينة نهاية القرن التاسع عشر أن أهل غياتة يخضعون تازة لنهب عام (تْرِتيلْ) من وقت إلى آخر، وأن هذا الوضع كان يدفع سكانها لإرسال نقودهم إلى أماكن آمنة مثل فاس.
ويصف دوفوكو في تقريره هذا المشهد بالغريب، بسبب تجول أفراد غياتة في المدينة بسلاحهم وبسبب ما يسود من خوف لدى الأهالي الذين يذكر أن من شدة معاناتهم مع هذه القبيلة لا يحلمون سوى بشيء واحد هو “قدوم الفرنسيين”، مشيرا إلى أنه سمعهم مرات عديدة وبأعلى صوت يقولون متى سيأتي الفرنسيون لتوفير الأمن وإنقاذ تازة من غياتة، التي أورد أن عشائرها في عراك دائم بعضها البعض لكنها تتحد ضد الأعداء، معرجا في حديثه هذا على واقعة السلطان الحسن الأول نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر بالمنطقة، لما حاول إخضاعها لسلطته زاحفا عليها على رأس محلة مخزنية انتهت بهزيمته وقتل فرسه وفراره راجلا بعد معاناة وقعة شهيرة محليا بـ”بوكربة”. مضيفا أن غياتة ذوو ورع ضئيل يقال في حقهم إن ليس لهم إله وسلطان ولا يعرفون إلا البارود، إلا أن لمولاي إدريس دفين فاس نفوذا كبيرا لديهم- يضيف-، وأن من الأشخاص الأكثر حظوة واعتبارا في القبيلة هناك “بلخصير”.
وعن تازة التي قال عند مغادرتها واصفا بؤسها وما توجد عليه من فوضى، أشار دوفوكو الى أنه لا يتوفر فيها على الحماية التي طبعت مجيئه اليها. وعليه، يقول إنه اختار فارسين من هذه القبيلة كزطاطة فضلا عن يهودي من المدينة لتأمين عودته إلى فاس.
بعض فقط من إشارات وردت في سفرية دوفوكو وورشه التعرفي الاستخباري حول تازة، في تقريره “التعرف على المغرب” الذي كان بصدى كبير لدى الأوساط العلمية والاستعمارية الفرنسية؛ ذلك أن ما خلفه من أهمية جعلت عددا من الدارسين والجواسيس والمغامرين برغبة قوية في تحقيق رحلات مماثلة خاصة صوب جهات بالمغرب كان لا يزال صعبا زيارتها. ولعل ممن نهج مسار دوفوكو من هؤلاء نجد دوزكونزاك مطلع القرن الماضي الذي شملت رحلته أيضا منطقة تازة. علما أن تقريره كان إلى حد ما شبيها بما كتبه دوفوكو من حيث نوعية المعطيات وطريقة عرضها فضلا عن غلبة ما هو مجالي طبوغرافي، في ارتباط طبعا بخلفيات إستراتيجية شكلت منطلقا للبحث والتعرف. بل عددا من الرحالة والمغامرين الذين جاؤوا بعد دوفوكو، عبروا عن إعجابهم بمؤلف هذا الأخير “التعرف على المغرب” معتبرين ما جاؤوا به في تقاريرهم هو تكملة فقط لِما قام به.
يبقى مؤلف دوفوكو من أهم ما كتب حول مغرب نهاية القرن التاسع عشر من نصوص، بل مصدرا غنيا من أجل فكرة حول المغرب خاصة في ممرات وعرة لم يكن سهلا بلوغها، لِما احتوته هذه النصوص من معطيات مجالية وإثنوغرافية وسياسية وأمنية وغيرها. فبالنسبة لتازة خلال هذه الفترة، ليس هناك ما هو شاف من وثائق محلية لفهم ما طبعها من وقائع وتطورات؛ وعليه، يجد الباحث في نصوص الأجانب الاستكشافية الاستعمارية، رغم ما يسجل حولها من ملاحظات، معطيات بقدر كبير من الأهمية ، سواء حول طبيعة علاقة المدينة بمحيطها خاصة قبيلة غياتة أو علاقة هذه الأخيرة بالمخزن خلال فترة ما قبل فرض الحماية على البلاد.