“محمد”، القاطن بحي تاركة بمدينة الرشيدية، وضع “قربة” أمام محله لبيع “العقاقير” من أجل أن يرتوي المارة والزبناء من ماء يحتاجونه في فترة الحرارة المفرطة، التي تضرب الجنوب الشرقي من المملكة في فصل الصيف.
“هي عادة قديمة، توارثناها عن أجدادنا ونحافظ عليها من الاندثار ونمد أيدينا للناس لمساعدتهم للتغلب على العطش في فصل الصيف”، قال “محمد”، الذي بدت عليه الفرحة وهو يحكي قصصا مثيرة لبعض المارة الذين كانوا يرتوون من الماء وهم منهكون بفعل ارتفاع درجات الحرارة وكانت “القربة” منقذا لهم من لهيب الشمس، والتي خصصها لهم ولغيرهم، وكانت ملاذا لهم في هذه الفترة.
واعتبر محمد، في تصريح صحافي، أن توزيع الماء بهذه الطريقة التقليدية المتوارثة عن الأجداد يجلب البركة لصاحب الفكرة، مشيرا إلى تبنيه لهذه المبادرة كفعل للخير، إذ لا يقوم بالمناداة على الناس للاستفادة من الماء الصالح للشرب؛ لأن “القربة” أو “القلة” (بتعبير أهل تافيلالت) وضعت في مكان يشاهده الجميع.
المسار نفسه، ولو بشكل مختلف، اتبعه السعيدي العيساوي، المنحدر من قصر تابوعصامت بالريصاني نواحي إقليم الرشيدية (تبعد عن الرشيدية بنحو 96 كيلومترا)، إذ آثر على نفسه أن ينادي على كل الناس في الأسواق والأماكن التي يتجمعون فيها من أجل “جمع الحسنات”، حسب تعبيره، و”الدعوات الصالحات” من كل عطشان مر بجانبه واستفاد من مائه العذب الذي يجلبه من مكان غير بعيد من مقر سكناه.
“ماء السبيل في سبيل الله” هي العبارة التي يرددها السعيدي العيساوي (عمره 59 عاما) بكثرة لاستقطاب من يرتوي من العطش، والتي بدأ ترديدها حينما كان يبلغ من العمر 14 عاما، في عادة متوارثة عن الأجداد، مكرسا ثقافة محلية مستمدة من سلوك كان ولا يزال يميز منطقته الصحراوية وتعبر عن التضامن والإحساس بالآخر في فترة قر الصيف ودرجات حرارته جد المرتفعة.
وتشهد مناطق الجنوب الشرقي للمملكة، لا سيما مدينة الرشيدية والمدن المجاورة، مثل الريصاني وأرفود، موجة حرارة مفرطة خلال فصل الصيف، والتي تعد الأعلى بين درجات الحرارة المسجلة في جميع مناطق المغرب، حيث قد تصل إلى 50 درجة، وتستمر لمدة طويلة.
وعلى الرغم من شح المياه وتراجع التساقطات المطرية في المنطقة، فإن السكان حافظوا على هذه العادة الحميدة، إذ لا يكاد يخلو أي شارع بمدينة الرشيدية والمناطق المجاورة من مكان قد وضعت فيه “قربة” أو “قلة” أو “خابية” كبيرة مع كأس مربوط بها لكي يشرب كل مار بجانب أصحاب المحلات والمنازل؛ لأنهم يعتقدون بأن “الماء مادة حيوية لا يشعر بأهميتها وضرورتها القصوى سوى الذين ذاقوا تبعات ارتفاع درجات الحرارة في الرشيدية”، قال السعيدي العيساوي.
زايد جرو، المهتم بالتراث المادي واللامادي بجهة درعة تافيلالت، أكد، في تصريح صحافي، أن السوق التاريخي لمدينة الريصاني لا يزال يعرف تواجد “الكرابة” الذين ينادون بـ”الماء في سبيل الله” و”اشرب يا عطشان”، من أجل، على الخصوص، التصدق بهذه المادة الحيوية كعادة متوارثة عند “الكرابة” القدامى والساكنة المحلية المحافظة على أصول ثقافتها “سخاء وجودا وإحسانا”، على الرغم من المعاناة التي يلاقونها في جلب الماء من أماكن بعيدة بعد توالي سنوات الجفاف وشح التساقطات المطرية بالمنطقة منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
وأبرز أنه يلفت نظر العابرين بالريصاني وسجلماسة التاريخية أن بجنبات الدكاكين المصطفة على الطريق المؤدية إلى السوق وتحت أسوار القصور التقليدية، “خوابي” مياه عذبة، كما يسميها أهل المنطقة، مملوءة بمياه الصالحة للشرب.
وأشار زايد جرو إلى أن هذه “الخابية مصدر خير ورزق على أهل المنزل وصدقة جارية لفائدتهم، فيكفي أهل المنزل سماع دعوات المارة المستفيدين من الماء بالرحمة على الوالدين، كجزاء لا مثيل يثير الفرحة التي لا تعوض بمال”.
من جهته، قال محمد أمراني علوي، أستاذ التاريخ بالكلية متعددة التخصصات بالرشيدية، إن هذه الظاهرة تبرز أيضا، وبشكل جلي، من خلال التوزيع المجاني للماء الصالح للشرب على حجاج بيت الله الحرام، مضيفا: “نجد لها شبيها مع اختلاف المكان، في سوق الريصاني”، إذ “يتواجد، في غالب الأحيان، خاصة في يوم السوق (الثلاثاء، الخميس والأحد) أحد مقدمي الماء الصالح للشرب وهو المعروف محليا بالكراب”.
وأضاف أمراني علوي أن هذا الشخص ينادي بأعلى صوته “الماء في سبيل الله رحم الله والديك أمول السبيل”، وهي إشارة أساسية تؤكد أن الماء موزع بالمجان، مما يعني أن أحد الناس أو السكان قدم أجرة الماء لهذا الشخص (الكراب) طالبا منه أن يوزعه بالمجان على الناس في السوق. و”هذه الظاهرة نادرا ما تجدها في الأماكن العمومية في باقي المناطق” من المغرب.
وأبرز الأستاذ المتخصص في التاريخ أن التصدق بالماء أعطى للكرابة مكانة جيدة بين أفراد المجتمع، حيث لا يعد هذا اللقب “عيبا أو انتقاصا من شخصه، بل هو تسمية تمتاز بقيمتها التاريخية والتراثية والتي علمت الناس استحضار معاناة الآخرين مع درجات الحرارة المرتفعة”.
وعن أسباب اتباع نفس التقليد لدى ساكنة المنطقة، قال زايد جرو إن العديد من الأسر تلجأ إلى تزويد المارة بالماء الشروب الذي يطفئ لهب حرقة الشمس، في سلوك يحيي عادات قديمة لمواجهة القيظ والعطش، لا سيما مع موجة الحرارة المفرطة التي يشهدها الجنوب الشرقي منذ سنوات عديدة نظرا للمناخ الحار الذي يميزه.
وشدد المتحدث ذاته على أن أهل الريصاني يستعملون العديد من الوسائل من أجل تقديم الماء لجميع المارين كصدقة و”في سبيل الله”؛ من ضمنها “الخابية” الموروثة عن الأجداد والمستعملة لجمع الماء وتنقيته.
واعتبر زايد جرو أن هذه الوسيلة تندرج في إطار الثقافة الموروثة في سجلماسة، مضيفا أنه “لا يكاد يخلو منها منزل بالقصور والقصبات العتيقة؛ لأنها أصبحت إرثا ثقافيا ماديا ينقل من جيل إلى آخر، ودخلت بشكل قوي المعاجم الشفوية والكتابية للمنطقة الفيلالية”.
وأبرز أن “العديد من الأشخاص ينحدرون من المنطقة انتقلوا إلى مدن كبيرة وحافظوا على التواجد الفعلي للخابية في منازلهم، بدلالتها الرمزية والتراثية، على الرغم من وجود ثلاجات حديثة الصنع تتماشى مع متطلبات العصر؛ لكن تواجدها هو استمرار للعطاء والخير والتضامن الذي اشتهرت به المنطقة”.
من جانبه، اعتبر عبد الواحد الهاروني، متخصص في تراث سجلماسة، أن توزيع الماء مجانا يعد “ثقافة لا تزال حاضرة بقوة بالمنطقة، أي من العيب أن يأخذ مقدمه للمارة أجرا ماديا مقابله، وهي عادة تستعمل كذلك في سقي المجالات الفلاحية”.
وأشار الهاروني إلى أن البعد الحضاري للماء “حاضر بقوة في الأعراف الشفوية والمكتوبة المتداولة بالمنطقة، لاسيما في قصر أيت عثمان وقصر الجرف بإقليم الرشيدية، من حيث الحرص على نظافة الماء الصالح للشرب والحفاظ على طريقة استغلاله، خاصة في فترات شح المياه، مع معاقبة كل من يلوثه ويخدش عملية توزيعه المجانية”.
وأضاف الباحث المتخصص في تراث سجلماسة أن “السكان يبادرون، وبدون اتفاق مسبق، إلى تبريد الماء وإعطائه للآخرين في كل مناسبة، وهو تعبير عن روح التضامن القائمة بينهم”، معتبرا أن هذا السلوك الإنساني الجيد في استعمال الماء يأتي بسبب البعد الديني الذي يجعل هذا الفعل صدقة جارية، مما جعل الناس يعملون على حفر مجموعة من الآبار لسقي الماشية ويوقفونها ابتغاء الأجر والثواب من الله تعالى”.
الماء في المنطقة فرض ظهور مصطلحات محلية؛ مثل “الخابية” التي تصنع من قبل السكان، وهي وسيلة لتصفية وترشيح الماء الصالح للشرب وتبريده، ليصبح عذبا، بعد تغليفها بأثواب وحبات من القمح المتداول، لتفرض نفسها كصناعة محلية.
وذكر الأستاذ الهاروني أنه يوجد في بعض الأسواق “الكراب” الذي من مميزات مبادراته أنه لا يدعو لتلقي مقابل عن الماء الصالح للشرب المقدم للمارين وزوار السوق، بل يطلب نظيره دعاء بالصحة والعافية وتقبل العمل عند الله سبحانه وتعالى، و”لا يبدو عليه العبوس، بل يقابل الجميع بابتسامة على محياه تظهر الفرح والسرور بعمل له بعد ديني محض”.
ولا تأتي هذه الظاهرة من سلوك حديث، بل هي متجذرة لدى ساكنة منطقة تافيلالت وسجلماسة، إذ أكد الأستاذ محمد أمراني علوي أنها مرتبطة بتاريخ وتراث المنطقة، نتيجة الدور المحوري للماء في جهة تتسم بانتشار الواحات الخضراء ويرتكز نشاطها، بشكل كبير، على هذه المادة الحيوية، وتتمحور قوتها الاقتصادية والمعيشية على وجود الخطارات والمجاري المائية التقليدية المنتشرة في كل مكان.
وأضاف: “لعل موقع المدينة التقليدية سجلماسة على ضفاف نهر زيز غريس خير دليل على ذلك، مما جعل الماء أساس الحياة بالمنطقة”، وأدى إلى انتشار ظاهرة وضع إناء خاص بالماء البارد موجه للمارة وابن السبيل والمحتاجين، لاسيما في فصل الصيف، لكون المنطقة تعرف ارتفاعا كبيرا في درجات الحرارة”.
وشدد على أن المصادر التاريخية التي تتحدث عن المنطقة، خاصة سجلماسة، تشير إلى حفر آبار عميقة على طريق القوافل التجارية من أجل تسهيل الحصول على الماء بالنسبة للتجار والدواب، خاصة أنهم يقطعون مسافات طويلة في الصحراء والفيافي، مضيفا أن هذه الآبار “أصبحت عبارة عن صدقة جارية لمن قام بحفرها”.
وكشف الأستاذ أمراني علوي أنه تم نقل بعض العادات والتقاليد المستمدة من توزيع الماء بالمجان في فترة الحج إلى مناطق أخرى (سقاية الحجيج)، و”هي الوظيفة التي كان يتسابق إليها سكان مكة والمدينة”.
وتبين هذه العادات القديمة/ الجديدة في توزيع الماء على الناس وإتاحته للجميع الارتباط التاريخي والمجالي والاجتماعي لسكان تافيلالت وسجلماسة بهذه المادة الحيوية، وجعلها وسيلة لخدمة اجتماعية مجانية يبتغى منها وجه الله تعالى والأجر المدخر إلى الآخرة.