قال الناقد المغربي محمد بنعزيز إن “المخرج بيتر بروك رحل في اليوم الثاني من يوليوز الجاري، عن سن 97 عاما، بعد عمل طويل نظري وتطبيقي”، مضيفا أن “هذا ليس رثاء له وليس عُربون محبة فائضة لشخصه الكريم، بل هذا النص هو عرض لتصورات المنظر والفنان الراحل من خلال كتبه”.
وأشار بنعزيز، في مقال له بعنوان “رحيل بيتر بروك المخرج الذي قرّب المسرح من السينما”، إلى أن “بيتر بروك يعتبر أن وسائل المخرج هي النص والأداء والأضواء والألوان والمشهد والأزياء والماكياج…، وأن التنفيذ الجيد يشمل الإخراج والتصوير والتقطيع الرائع”.
وتطرق محمد بنعزيز، في المقال ذاته، لمجموعة من الأسئلة التي أجاب عنها المخرج بيتر بروك، خاصة ما يرتبط بـ”الزمن في السينما”، و”كيف تصبح مخرجا؟”، و”إدارة التمثيل”، و”مهمة الممثل”، و”مسرحيات شكسبير”، و”التعامل مع الجمهور”…
هذا نص المقال:
رحل المخرج بيتر بروك بعد عمل طويل نظري وتطبيقي. رحل يوم 2-7-2022 عن سن 97 عاما. هذا ليس رثاء له وليس عُربون محبة فائضة لشخصه الكريم، فلم يسبق لي أن التقيته لأحبه وأمدحه ميتا وأردد “كان منا وكان لنا”. هذا النص هو عرض لتصورات المنظر والفنان الراحل من خلال كتبه وخاصة “النقطة المتحولة”.
بدأ بيتر بروك الإخراج في سن مبكرة، وأعد أول مسرحية له وكأنه سيصورها للسينما.
لماذا؟
لأنه ليس الأفكار هي التي تؤدي إلى الكشوف ولكن الحركة، الممارسة فوق الركح هي التي تقود إلى الاكتشاف.
كان بروك مفتونا بالإضاءة والصوت والألوان والثياب. لذلك، يستخدمها لخلق مشهد قوي من الصور المتدفقة، التي تكون جسرا بين المسرحية والجمهور.
هذا الجسر مهم جدا.
يعتبر بيتر بروك أن وسائل المخرج هي النص والأداء والأضواء والألوان والمشهد والأزياء والماكياج… وأن التنفيذ الجيد يشمل الإخراج والتصوير والتقطيع الرائع.
يقول:
“الزمن في السينما هو زمن متابعة اللقطة، لا يهم إن كانت في الماضي أو في المستقبل، وفعل مشاهدة فيلم هو سلسلة من “لحظات الآن”، الفيلم هو تجميع عاطفي حار لهذه “الآنات”، و”المونتاج ليس النظام ولكنه العلاقات” (في كتاب النقطة المتحولة أربعون عاما في استكشاف المسرح، ترجمة فاروق عبد القادر، سلسلة عالم المعرفة، عدد 154، أكتوبر، 1991، ص 44).
ذات مرة تلقى بروك رسالة: كيف تصبح مخرجا؟
أجاب: “أنت تصبح مخرجا بأن تدعو نفسك مخرجا، ثم تقنع الآخرين بأن هذا صحيح… وأنا لا أعرف طريقة سوى إقناع الآخرين بأن يعملوا معك، وضرورة أن تكون منشغلا بعمل لتعرضه على الناس… إن الطاقة التي تَنتجُ عن العمل أكثر أهمية من أي شيء آخر… (لا تنتظر) شروطا أفضل، وقد لا تأتي أبدا، وفي النهاية فإن العمل يجتذب العمل”.
ولقد طبق بروك النصيحة على نفسه، ودفع بهذه التجربة إلى حدها الأقصى على أربعة مستويات: هي وجهة النظر والتمثيل والاقتباس والتعامل مع الجمهور.
على صعيد وجهة النظر، يقول بروك: “اكتشفتُ أن الإنسان لا يمكن أن يعيش دون توحد حار ومطلق بوجهة من وجهات النظر”، من لا يملك هذا لن يكون فنانا بل نسّاخا، بعدها يخصص بروك:
“يجب أن يملك المخرج حس الاتجاه، وهذا الحس بالإمكانات المحتملة هو الذي يقوده نحو اكتشاف المكان والتمثلات وأشكال التعبير، وهذا ما يفعله المخرج في تعامله مع الممثل”. وفي بحثه هذا يصرح بروك بأنه يخشى من خنق الحدس الداخلي الهش لدى الممثل الذي يديره.
بفضل هذا التنطير لإدارة الممثل، يُربط اسم بيتر بروك ليتواني الأصل باسم الروسي كونستانتين ستانيسلافسكي، مؤلف كتاب “إعداد الممثل في المعاناة الإبداعية” (ترجمة شريف شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997).
في تركيزه على الممثل، يقول بروك:
“التمثيل فعل، ولهذا الفعل أثره، ومكان هذا الفعل هو العرض. والعرض موجود في العالم، وكل الحاضرين هنا واقعون تحت تأثير هذا العرض”. إذن، يحتاج الممثل إلى الكثير لتقديم هذا العرض.
يشرح بروك:
إن مهمة الممثل أكثر تعقيدا من مهمة امتلاك صوت واضح كقارئ نشرة الأخبار، على الممثل الاشتغال على صوته، على النبر والنطق وبروفات الإنصات… أضاف المخرج المتمرس بأنه يجب إجراء البروفات في نفس الخشبة التي ستؤدى عليها المسرحية أمام الجمهور.
لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يصل الممثل إلى الشرط الفيزيقي للشخصية عن طريق التخَيل أو التذكر، بل يصل إليه بالمعايشة. ومن يصل يصنف مثلا موهوبا، “الممثل الموهوب يجمع بين الأداء القوي والواقعي” ص 92.
هذا في اشتغال الممثل على ذاته. أما في اشتغاله على النص المسرحي فيقدم له بيتر بروك قاعدة ذهبية:
“على الممثل ألا ينسى أبدا أن المسرحية أعظم منه، وإذا ظن أن بوسعه أن يبقيها في قبضته، فستكون النتيجة اختزالها لتصبح على قدّه”. أي ستصْغر.
وهنا يعرّج المخرج على نصوص عظيمة يستحيل اختزالها، وهي مسرحيات شكسبير.
يقول بروك:
تكمن جاذبية شكسبير في القوة الدرامية الهائلة لمسرحياته وأحكام تقدمها، فمسرحياته السبع والثلاثون تتحمل تفسيرات عديدة لأنها كتبت بحرفية.
فأحداثها تتقدم لحظة بلحظة، تنتقي لحظات كثيفة، آنات منتقاة تُقتطع منها التفاصيل غير الأساسية والأحداث الواقعية غير المهمة وتُحشد بَدلها الآراء والأصوات والأفكار والصّور التي تجعل من كل لحظة شيئا مليئا بالحركة والبهجة.
إن مسرحيات شكسبير، حسب بيتر بروك، تشبه البرقيات ص 166، وهي مسرحيات ينتهي معظمها بتفاؤل بصرف النظر عن الأحداث المرعبة التي حدثت. ص 101.
وهذا ما ينقلنا إلى النقطة الرابعة، أي التعامل مع الجمهور الذي يُحب النهايات السعيدة. لذلك، يدعو بروك إلى احترام الجمهور والتعلم منه، الجمهور هو الشخص الآخر، وهو ضروري كما في الحوار والحب. ص 140
لذلك، يجب التعامل مع هذا الجمهور بحرص؛ “فمن أجل أن تظل الآلة المسرحية دائرة بكفاءة، فإن العلاقة بالجمهور هي السّيور التي تربط أجزاء الآلة معا”، وبذلك يعرف بروك الإخراج بأنه تهيئة الجمهور للوصول بالمتفرج إلى حالة التأهب..
للتأكد من ذلك، يقدم المخرج عروضا مسرحية تجريبية فيها إسقاط مباشر لما في عقل الجمهور، لماذا؟
جواب المخرج:
لأنه في المسرح أنت لا تعرف من سيجيئ ليشاهد. ص 135 استعد للجميع.
لذلك، يسمي بروك العرض الأول للمسرحية أمام الجمهور “اختبار النار”.
هذه رسالة من خبير إلى كل من يعتقد أن الفنان حر أن يفعل ما يريد دون أخذ الجمهور بعين الاعتبار.
هذا عصر الجماهير، ولا يمكن تجاهلها.
هذا هو درس بيتر بروك.