“هاربا من قفص حديدي كبير، اسمه الوطن” كما جاء في مذكراته التي تحمل عنوان “المغرب بعيون عراقية”، غادر الكاتب العراقي رحمان خضير عباس العراق في سبعينيات القرن الماضي، نحو سوريا، وكان ذلك من أجل البحث عن العمل والهروب من تضييق البعثيين (حزب البعث الاشتراكي العراقي) على حرية التعبير. وقد اشتغل بعد ذلك بالفعل مدرسا للغة العربية لسنوات، أغلبها في المغرب حيث قضى 10 سنوات، موزعة على عامين بتارودانت و6 سنوات في وجدة وعامين بسلا.
كان العراق وقتها، كما يروي خضير عباس الذي يعيش حاليا في كندا لهسبريس، يشهد نوعا من العنف السياسي ولا يتيح للمعارضة أي فرصة للانتقاد، “هربنا من نوع من البطش”، بعد سوريا قرر الرحيل إلى ليبيا، يقول إن ليبيا وقتها كانت تستقبل الكثير من العرب؛ “لكن الحقيقة، طبيعة الحياة الليبية لم تعجبني، وكأننا في معسكر للعمل، كانت تعيش آنذاك نوعا من التخلف، الشواطئ الليبية وكأنها صحراء، فهم كانوا مشغولين بالقائد والكتاب الأخضر وهذه الطفولة أو المراهقة السياسية التي لم تؤد في النهاية إلى نتيجة”، وفق تعبير الكاتب.
المحطة الثالثة لرحلة “الهروب” كانت الجزائر، اشتغل عباس هناك لحوالي سنة “وكانت الجزائر حينها تحتاج إلى التعريب” أي في ما بعد الاستعمار الفرنسي. وفي العطلة الصيفية دخل إلى المغرب بغرض السياحة وكان ينوي العودة إلى الجزائر بعد انقضاء العطلة، حيث إن جميع أغراضه تركها هناك، “لكن بعد دخولي وجدة أخبرت أصدقائي بأنني لن أعود إلى الجزائر أبدا وسأبقى هنا، وذلك لأنني وجدت نوعا من الألفة الاجتماعية هنا”.
يتذكر الكاتب العراقي وهو يحكي للجريدة عن أول يوم له في المغرب (وجدة) أحد أفراد شرطة الحدود المغربية وهو يحدثه وأصدقاءه عن البيئة العراقية وعلاقتها بالبيئة المغربية، عن الجبال وعن أعلى قمة جبلية في العراق والمغرب، “وهذا بدا لي شيئا جميلا لم نألفه في حدودنا وفي الدول التي مررنا بها”، يقول عباس قبل أن يستطرد: “ذلك الشرطي المغربي الإنسان لم أشعر أمامه بالغربة”.
وأضاف: “حين وصلنا ليلا إلى وجدة وبعد مكوثي بها لأيام، حقيقة فوجئت بالفرق في طبيعة الحياة في المغرب والجزائر التي لا يرافقها السهر والانفتاح الاجتماعي، كانت الجزائر آنذاك تعيش نوعا من الانغلاق الاجتماعي، اكتشفنا بأن الجزائريين معجبون بالفرنسيين ويقدمون لهم كل الاحترام والتقدير، بعكس سلوكهم معنا”.
واستمرارا في البحث عن العمل، توجه رحمان خضير عباس إلى الرباط، حيث علم بأن المغرب في حاجة إلى بعض المدرسين، حيث عُين في مدينة تارودانت، وبقي هناك حوالي عامين، “وكانت سوس وتارودانت رائعتين في الحقيقة، ذهلت من طبيعة الحياة في مدينة شجرة الأركان وأناسها البسطاء والطيبين جدا، التلاميذ هناك كما أنهم ملائكة، حقيقة أجمل تلاميذ شفتهم كانوا في تارودانت، يحبون المعرفة وكثير منهم أصبحوا فيما بعد أدباء، بحيث حين عدت إلى تارودانت، وجدت الكثير منهم له إصدارات أدبية”.
بعد عامين في تارودانت، سيتم تنقيل عباس إلى وجدة، يقول إنه فرح بهذا التنقيل؛ وذلك بسبب تواجد مجموعة من العراقيين والفلسطينيين والسوريين والأردنيين في وجدة. عُين في البداية في التعليم الأصيل في “ثانوية الوحدة”؛ لكن بعد عامين سيفاجأ بإنهاء عقده إلى جانب مجموعة من زملائه. وكان هذا الإجراء جاريا به العمل لدى وزارة التعليم المغربية آنذاك، حيث كانت بين فترة وأخرى تقلل من عدد العقود، خاصة تلك المرتبطة بها بشكل مباشر وليس عن طريق بعثات الحكومات والدول الأخرى؛ “لكن من حسن حظي أن الوزارة تراجعت فيما بعد عن إنهاء عقود الأساتذة المتزوجين من مواطنات مغربيات”، وكان عباس حينها قد تزوج بمغربية من مدينة وجدة، فالتحق بعدها بثانوية “وادي الذهب” في حي “لازاري” الشهير والأكبر بالمدينة.
في مدينة وجدة كون رحمان خضير عباس وباقي المدرسين من مختلف الجنسيات “ما يشبه مجتمعا مصغرا”، وفق تعبيره. ويرجع الفضل في ذلك إلى المقهى المغربي الذي قال عنه في كتابه الأخير، إنه “ظاهرة تتفرد بها المغرب”. ويرى عباس أن المقهى المغربي الأفضل في العالم، ليس في الدول العربية فقط، وليس لذلك علاقة بما يوفره من مشروبات أو أنواع القهوة التي يقدمها لزبنائه، إنما توفيره للفضاء الذي شبهه بجلسات فلاسفة عصر الأنوار بأوروبا.
الشيء الغريب، يقول عباس، هو أن كان آنذاك بينهم عراقيون موالون لنظام صدام حسين ينتمون إلى البعثة العراقية، وكان بينهم وبين الكاتب وبعض زملائهم الذين يعتبرون معارضين للنظام نوع من العداء السياسي؛ “لكن طبيعة الحياة في وجدة ذوبت خلافاتنا السياسية وجعلتنا فيما بعد أصدقاء، وصار بيننا نوع من الألفة وعلاقات حميمية وأسرية بعد ذلك”، يورد الكاتب العراقي المغترب.
الحديث عن الخلافات السياسية طرح لدينا فضول حول توجهات الكاتب السياسية، فسألناه إن كان يقصد بكلامه أنه كان معارضا للنظام العراقي آنذاك، فأجاب: “هو في الحقيقة أستطيع القول بأنني كنت معارضا؛ لكن لأكون دقيقا، سياسة التبعيث في العراق (نسبة إلى حزب البعث)، كان يطرح فكرة إما معي أو أنت ضدي؛ وبالتالي فالعراقي بمجرد أن يختلف مع هذه التوجهات، وإن كان لا يحمل مشروعا معارضا فيمكن اعتبارك معارضا، بالرغم من أن هذا الحزب يقوم على مبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية لكن يناقضها في ممارسته”. قبل أن يختم جوابه في هذا السياق بالقول: “هم يجبرونك على أن تكون معارضا”.
أما في الوقت الحالي فارتباط الكاتب بالعراق لا يزال قائما، فهو يزور وطنه -وإن كان قد تخلف عن ذلك لمدة سبع سنوات لظروف خاصة- إلا أنه ينوي زيارة البلاد في الخريف المقبل.
ويرى عباس أن عراق اليوم رغم المآسي، هناك نهضة ثقافية وأدبية ووعي يمثله الكثير من الشباب الذين وجدوا أنفسهم في وضع لا يناسبهم، ويحاولون أن يغيروه عبر تطوير أنفسهم. وذكر في هذا السياق بتسمية بعض الشوارع بأسماء الأدباء والشعراء؛ من بينهم شارع الشاعر أبي الطيب المتنبي وهو شارع ثقافي يضج بالكتب. وأصبح كل يوم جمعة في العراق هو يوم المسرح وقراءة الكتب والفعاليات الأدبية.
لكن هاجس المغرب أيضا لم يغادر الكاتب العراقي المغترب -الذي اختار العيش في كندا بعد أن واجه إشكالية عدم قدرة الأبناء اكتساب الجنسية المغربية- يقول: “كنت أزور المغرب سنويا، كانت زياراتي إلى المغرب بعد مغادرتي له إلى كندا، في كل مرة أجدني أقوم بنوع من التأمل وكأنني أزوره لأول مرة، لذلك كتبت عن المغرب مثلما يجلس شخص في شرفة منزله ويتأمل الشارع بنوع من العمق والهدوء”.
ولأنها نالت النصيب الأكبر من سنوات إقامته بالمغرب يقول عباس أن علاقته بوجدة “علاقة حميمية”، ويتذكر أن حجمها حين دخلها أول مرة كان صغيرا نوعا ما “الشارع الرئيسي (محمد الخامس) ومقهى كولومبو التاريخي الذي كنت أقطن على بعد أمتار منه، ونافورة ساحة جدة التي كان السكان المحليون يطلقون عليها “البحر”.
كما لا تزال ذاكرته تحتفظ بجولاته بأسواق المدينة القديمة كسوق مليلية وسوق السمك بباب سيدي عبد الوهاب، والباب الغربي وسيدي يحيى، وملعب رياضة كرة المضرب (التنس) التي تعلمها فيه ويعشقها إلى حد الآن، “أتذكر هذه الأمكنة بشغف وبحب، لماذا؟ لأنني قضيت أيام الشباب هنا”، يورد الكاتب العراقي.
ويرى الكاتب أنه من سوء حظ وجدة تواجدها بالقرب من حدود مغلقة (الحدود مع الجزائر)؛ فبالنسبة لخضير عباس، وجدة لا تختلف كثيرا عن أشهر مدن المغرب السياحية وهي مراكش -التي يخطط أن يستقر بها بعد عامين من الآن- مبرزا أن وجدة لها جميع المقومات لكي تكون مراكش شرقية لكن موقعها الجغرافي حال دون ذلك.
وللكاتب قدرة على وصف مدن مغربية كوجدة وتازة وتارودانت وأكادير بطريقة توحي للقارئ بأنه ولد وترعرع بها؛ لكن ارتباطه بهذا البلد، على الرغم من مكوثه به لعقد من الزمن فقط، جعله يصف مدنه بدقة متناهية، إذ جزم بأنه “ليس هناك بيت روداني لا يملك “بيكالة”، وأن “المراكشيين يبذلون جهودا كبيرة في إيصالك إلى العنوان الذي تبحث عنه، وأن محترفي “الحلقة” لا يقطعون خيط الفضول عن الناس حتى يجمعون تبرعاتهم قبيل الذروة”، كما عبر عن “ذهوله” من كيف أن الاحتفاء بالعرس في وجدة أكبر من الاحتفاء بالموت، ويقول: “نحن العراقيين نحتفي بالموت بشكل مبالغ فيه، والمغاربة يحتفلون بالأعراس بشكل مبالغ فيه أيضا”، مبرزا أنه حين يكتب عن مدينة ما لا يقوم بوصفها تصويريا لأن ذلك قد لا يهم القارئ، “أنا أكتب عن روح ذلك الشارع وتلك المدينة والإنسان الموجود بها”.
بل إنه يذهب أحيانا في كتابه إلى استحضار أحداث متشابهة في البلدين المغرب والعراق، فمنظر المغاربة والجزائريين وهم يحيون بعضهم البعض في النقطة الحدودية “بين لجراف” ومعرفته بقصة طرد الرئيس الجزائري الراحل بومدين للمغاربة في ليلة عيد الأضحى وتشتيته لآلاف الأسر في عيد أضحى سنة 1975، ذكرته بحادثة أوردها في كتابه على أنها مشابهة، وذلك “حين هجر النظام العراقي في نهاية السبعينيات مجموعة من العراقيين إلى الحدود الإيرانية، بحجة التبعية الإيرانية مع أنهم يمتلكون الجنسية العراقية”.
وفي الكتاب ذاته يبرز خضير عباس تفهمه إعجاب “الكثير من الأخوة المغاربة بشخصية صدام حسين”؛ لكنه لم يخف في حديثه إلينا كرهه له، “إنني أكره هذا الرجل أشد الكره، لقد حُرمت من وطني وأهلي بسببه”، لكن على الرغم من تحميله صدام “مسؤولية تخريب الوطن وتشريد أبنائه” أكد أنه يوم إعدامه بكى، “لقد بكيت وأنا أنظر إليهم يعدمونه بشكل علني وفي ليلة عيد الأضحى، لكن الذي أبكاني ليس إعدام صدام حسين.. الذي أبكاني هو إعدام العراق.. أما صدام فكان سيعدم دون شك، لتلك الجرائم أو لأخرى كثيرة”.
ولأنه عراقي الأصل والهوى، يرتبط الكاتب المغترب بشكل كبير بأشعار الشاعر العراقي مظفر النواب، الذي قال عنه إنه “تاريخ شعري واكب الحركة الاجتماعية والسياسية في العراق، خاصة بقدرته على الكتابة باللغة الشعبية مثل “شعر الزجل” في المغرب، مظفر النواب لامس هموم الإنسان العربي وليس العراقي فقط، كان كونيا”. وذكر بأنه بعد وفاته أقاموا له حفل تأبين في “صالون العراق الأدبي” في لوس أنجلوس.