ما المدنُ إلا ناسُها. فمعنى المكان في قلوب أهاليه. وإلا، لما بدّلْنا الديار بالديار. فالحجارة لا يُسعى إليها. لذلك لا أعرف كيف أجد بيروت خارج حيوية مقاهيها ومطاعمها وفضاءاتها الثقافية. وها إنني ما زلت أبحث عن بيروت في بيروت.
جئت هذه المرة تلبيةً لدعوة من الصديق الشاعر زاهي وهبي للحلول ضيفًا على برنامجه الثقافي الرفيع “بيت القصيد”. بيد أنني أطلتُ من عمر المقام ببيروت ورتّبت كل شيء لترافقني محاسن زوجتي. كان ثمة في بطن محاسن جنينٌ ما فتِئَ ينمو بشكل سريع في الأسابيع الأخيرة ما جعل البطن يبدو منتفخا بشكل مفضوح. لذا ارتأينا التَّعريج على الطبيب قبيل موعد السفر مباشرة. طائرتُنا باتجاه إسطنبول – ومنها إلى بيروت- تغادر مطار مراكش المنارة على الساعة الرابعة بعد الظهر، وعلينا أن نكون في المطار ساعتين قبل موعد السفر: الثانية ظهرًاـ أو قبلها بقليل. حمّلنا أمتعتنا في حقيبة السيارة التي اعتدتُ رَكْنَها في مطار مراكش تجنُّبا لأي تماسٍّ مع تاكسيات المطار التي لا أرتاح للتعامل مع سائقيها خصوصا ساعة العودة، وهم بدورهم يبادلون إخوانهم المغاربة نفس التّوجّس لأنهم يفضلون السّياح الشّقر والخليجيين على مواطنيهم. لذلك أستعمل سيارتي وأركنها في مرأب المطار إلى حين العودة. غادرْنا البيت باتجاه الطبيب أولًا. زيارةٌ سريعة الغرضُ منها الحصول منه على شهادة تؤكد أن الولادة مرتقبة في الخامس من شهر غشت (أغسطس) وبالتالي لا مانع من سفر الجنين في بطن أمه. لكن الطبيب الذي لاحظ انتفاخ قدمَيْ محاسن، الانتفاخ الذي كنا نتصوره طبيعيا ومن مُستتبعات الحمل، آثر ألا يمنحها أيّ شهادة إلا بعد كشف سريع. لكن نتيجة الكشف أظهرت مع الأسف أن المَشِيمة التي توفّر للجنين الأكسجين والتغذية تعرّضت لتكلُّسٍ مبكِّر، ما يجعل محاسن مطالبَة بالخضوع لعدة فحوصات لتقييم تأثير ذلك على صحة الجنين.
– وبيروت؟ والطائرة التي ستقلع من مطار مراكش بعد ثلاث ساعات من الآن؟
ردّ الطبيب بأن هناك مجازفة في صعود الطائرة في ظل هذا الوضع، وأكد على أننا من الغد سنكون مطالبين بفحوصات الأشعة فوق الصوتية قد تعجِّل نتائجُها بتحفيز ولادة مبكّرة.
قررتُ بدوري إلغاء السفر، لكن محاسن أصرّت على أن نكتفي بإلغاء رحلتها هي. هكذا أوصلتني إلى المطار. كانت أغراضنا موزعة بين حقيبتين فتحتُهُما في باركينغ المطار حيث هيأتُ حقيبتي على السريع وركضت إلى الداخل.
° ° °
سلامًا من بيروت. كأنها ليست بيروت. ليست المدينة التي أعرف. ليست المدينة التي أحب. اتصلتُ بمحاسن فطمأنتني إلى أن حالتها ليست بالخطورة التي بالغ الطبيب في وصفها لنا في عيادته بهدف إحباط السفر. وهي ملزمة بتكثيف حصص المشي لكي يستعيد الأوكسجين تنقُّله السّلِس بينها وبين الجنين.
– يبدو أن الوضع تحت السيطرة الطبية الآن، فلا تقلق. فقط سلّم لي على بيروت.
– سلامك يوصل، أجبتُها. أنهيت المكالمة وغادرت الفندق. خرجتُ أفتّش عن بيروت.
° ° °
أمس، في مكتبة أنطوان في شارع الحمرا، كنت أتأهّبُ للمغادرة حين ولج بخطوٍ متمهٍّل شيخ ثمانينيّ رفقة زوجةٍ تبدو في سنه، أو لعلها أصغر قليلا. كانا مربوعَيْ القدِّ يرفلان في ملابس عتيقة الخامة والموديل، لكنها نظيفة ومكوية بعناية. فستان الزوجة أبيض منقّط بدوائر سوداء، كأنه من فساتين أفلام الأبيض والأسود. وبذلة الزوج رمادية مُخطّطة. كنتُ عند الكونتوار قد فرغت للتوِّ من فحص تآليف عن بيروت بالفرنسية والانجليزية غير بعيد عن مكتب المسؤول عن المكتبة حين تقدّم منه الزوجان. خاطبه الزوج بنبرة خافتة، خفوتٌ متهدّجٌ يُباطنه كبرياء أصيل:
– نحن من الشام، ولدينا مكتبة مهمة نعرضُها للبيع.
– مع الأسف لا نشتري الكتب القديمة، كان الجوابُ حاسمًا.
– ما كلُّ الكتب قديمة. ثم إن المكتبة ضخمة على كل حال، ولكم أن تختاروا منها ما يناسبكم.
– قصدي أننا لا نشتري الكتب المستعملة. الكتب تصلنا عبر قنوات أخرى. نتعامل حصريًا مع دور نشر وشركات توزيع. ولا نقتني كتبنا بهذه الطريقة.
ظل الزوج واجمًا لبُرهة، فيما تأبّطت زوجته ذراعه بحرارة أكبر. كأنما تسنُده. كأنما استشعرَتْ حجمَ خيبته فالتصقت به أكثر لتواسيه هو القادم من الشام على أمل بيع مكتبته هنا في بيروت. وها هو الأمل تضيقُ فُسحتُه السَّرابية ويكاد يتلاشى من أمامه كخيط دخان.
لكأن الشيخ نسي أن بيروت جريحة بدورها، وأن العالم غير العالم والزمان غير الزمان.
بيروت حديقة الكتب. مكتبة العرب من المحيط إلى الخليج. لكن هل الحديقة ما زالت على سالف عهدها؟
اِسترَقْتُ نظَرًا شزْرًا إلى مسؤول المكتبة. لم أحبَّ صوته المحايد الذي لا يغادر منطقة الحياد إلا باتجاه نبرة تبرُّم كتيمة.
– جرِّبوا مكتبة لبنان، قد تجدون هناك من يهتمُّ بالموضوع. استطرد لحسن الحظ.
كان طوقَ نجاةٍ كأنما أعاد للشاميِّ المُسِنِّ الروح والنَّفَس. فاستجمع قواه واقترب من صاحب المحل يسأل عن المكتبة ومكانها.
قلت في نفسي، الرجل ليس جافًّا ولا عديم اللياقة كما تصورتُ لأول وهلة. فقط هو يشتغل في محلٍّ ليبيع كُتبًا لا ليشتريها. ثم لعلَّ مثل هذا الطلب تكرَّر أمامه عشرات المرات. فالكثير من الشاميين والبيروتيين أيضًا باعوا مكتباتهم في أزمنة الشؤم التي عرّشت بين ظهرانينا هذه الأيام. كنت أطالبه بالتعاطف، دون أن أنتبه إلى أن الرجل، ربما، بذل مجهودا جبارًا لكيلا يُشعِر الشيخ الشامي بضجره من هكذا سؤال ومن هكذا عرض.
أملُ إيجادِ مُقتَنٍ لذخيرته النفيسة في مكتبة لبنان جعلت العجوز يستعيد كبرياءه فخرج بخطوٍ مُطَّرِدٍ وقامة منتصبة وزوجتُه ترافقه مشدودةً إلى ذراعه بتعاطف وحُنُوّ في واحد من أرقِّ مشاهد الحب التي مرَّت أمامي في السنوات الأخيرة.
ياه، ماذا تقتلون في مواطنيكم يا صُنّاع الحروب ويا مُؤجّجيها من كل الأطراف، ولا أستثني طرفًا؟ “كلكن يعني كلكن”، كما يردِّد اللبنانيون في مظاهرات غضبهم.
حسنًا، لأغادرِ المكتبة إلى أقرب مقهى. يمّمتُ شطر “تاء مربوطة”. أحب هذا المكان بشكل خاص. الناس فيه يشربون شايًا أو قهوة، بيرة أو نبيذًا، يتناولون غداءهم أو عشاءهم وسط الكتب. يتسامرون في قلب مكتبة. بالباب، توقفتُ لبرهة قبل الدخول. كانت صورة الشهيدة شيرين أبو عاقلة معلقة بالباب وتحتها قصيدة للشهيد كمال خير بك:
ماذا نقول لهم، وموتهم الفصيحُ شهادةٌ
ضدّ الكلام
ماذا نقولُ، وموتهم نفقٌ من الضوءِ
المُسافرِ في الرُّكام؟
سقطَتْ ثياب بلاغة الشعراء
سقطت تماثيلُ الخطابة والكتابةِ
والغناءْ
لا لم تسقط تمامًا. لأنني ما إن ولجتُ المحل حتى صادفتُ عباس بيضون يتأبّط كتبًا له ويتّجه نحو الباب. استوقفتُه فتعانقنا ثم سألني كم سأبقى هنا. قلتُ أياما معدودات. اتفقنا على أن نتواصل عبر الواتساب لنحدِّد موعدا في الغد أو بعده. كان عباس يتأبط طبعة حديثة من ديوانه الأول “صور”. ما الذي جعل بيضون يعيد طبع ديوانه القديم الأول في هذا الوقت بالذات هو الذي لم يفعل على امتداد دواوينه اللاحقة غير التَّنكر لـ”صور” والإمعان في تجاوزه؟ هل هو حنين إلى زمن ما قبل الحرب الأهلية، زمن كتابة هذه القصيدة / الديوان؟ هل هو وضعُ بيروت الحالي، الهشّ والمرتبك، ما عاد به الى المكان القديم، إلى البيت الأول، إلى المدينة الأولى التي قذفت به قريتُه الصغيرة إليها صبيا ليتابع بها دراسته المتوسطة؟ ليس الإنشاد ما جعل عباس بيضون يعيد طباعة هذا الديوان، فهو يخاصم الإنشاد ولا يطيقه. لكنها “صور” الملاذ. المرتع القديم. وما الحبُّ إلا للمكان الأوّل.
سحبت كتابًا من مكتبة “تاء مربوطة” وطلبت مشروبًا وجلست أقلب الصفحات وإذا بهاتفي يرنّ.
– ياسين فينك؟
– أنا في بيروت، أجبت.
لم أصدّق أن مارسيل خليفة مَن كان على الطرف الآخر. لم أخبر أحدًا بسفري إلى بيروت. فمَن أشْعَرَه بوجودي هنا؟ تلفَّتتُ يُمنة ويسرة. لعله هنا يرمقني خفية من إحدى زوايا “تاء مربوطة” فأراد مشاغبتي. لكنه لم يكن بالمطعم. أو على الأقل لم أتبيّن لحيته الفضّية المُشذَّبَة المُضيئة.
– دعنا من المزاح وأجبني أينك. أنا هنا في الرباط. مع صديقك محمد نور الدين أفاية. وأريد أن أراك، فأينك؟
– لكنني فعلا في بيروت. أجبتُ مؤكِّدًا بنبرة جازمة.
هكذا فاتنا أن نجدِّد العناق.
التقيتُ مارسيل في أكثر من بلد وأكثر من عاصمة. آخرُها القاهرة ثم عمّان. وقبلها مراكش حين زارنا في الحمراء قبيل الحجر الصحي. لكننا لم نلتق أبدًا في بيروت.
في اليوم الموالي زارتني علوية صبح في الفندق. شربنا قهوة في تيراس المقهى المُجاور للفندق. علوية بأُلفتِها الرقيقة واعتدادِها الجميل بنفسها وكتابتها ووفاءها النادر للصداقة والأصدقاء.
مكلومةً بادرتني:
– أنا ملتاعة جدا. فحسن عبد الله مات بالأمس، هل علمت بالخبر؟ وهل تعرف حسن؟
– علمتُ بالخبر هذا الصباح، وقبل قليل فقط كتبتُ رسالة تعزيةٍ لعباس بيضون على الواتساب، أخبرتُها.
كان من أقرب أصدقائي، أردفَتْ. صبيةً تتلمذتُ في فصله. درَّسني اللغة العربية. وكنتُ طالبة في الجامعة لا أزال حين صرتُ وحسن صديقين مقرَّبين. حكت لي علوية عن صداقتها العميقة معه ومع شقيق روحِه حسن حمدان (مهدي عامل). كانت علوية تتكلم بوجع وحنين. أما أنا فشردت أفكر في مارسيل. هل كان يعلم بوفاة حسن عبد الله حين هاتفني بالأمس؟ بفضل مارسيل خليفة تعرّفتُ على حسن عبد الله وأحببته. بفضله ولجتُ منذ يفاعي الأول بمراكش بيروت في إثر حسن عبد الله:
” ودخلتُ في بيروت… من بوابة النار الوحيدة
شاهرًا حُبِّي، ففرّ الحاجزُ الرملي
وانقشعَتْ تضاريسُ الوطنْ.”
لكن يا علوية؟ إنما يا مارسيل؟ ” مِن أين أدخلُ في الوطن؟ ”
هذا السؤال يطرحه حسن عبد الله علينا جميعًا وعلى أوطاننا من المحيط إلى الخليج. أوطاننا التي تسكننا لكنها أحيانًا لا تتيح لنا أن نسكنها – بدَوْرِنا- بسلام، ولا أن ندخلها آمنين.
ثم أحببنا أمهاتنا أكثر أيام النضال الطلابي في الجامعة ونحن نردّد في تظاهراتنا الثقافية ومُسامراتنا الرِّفاقية قصيدته الثانية التي قدمها لنا مارسيل دائمًا:
“أجملُ الأمهات التي انتظرَتْ طفلها
أجمل الأمهات التي انتظرَتْهُ
وعاد مستشهدًا
فبكت دمعتين ووردَهْ
ولم تنزَوِ في ثياب الحداد”
ولا أخفيك يا علوية أننا كنا ننتظر نهاية الأغنية لنردد مع حسن ومارسيل باستثارةٍ وحماس:
” صامدون هنا. صامدون هنا. قرب هذا الدمار العظيم
وفي يدنا. يلمع الرعب في يدنا. في القلب غصنُ الوفاء النّضير.”
حدث ذلك في زمنٍ كان فيه للصمود معنى لا يزال. أما اليوم فغصن الوفاء أدركه اليباس يا علوية والدمارُ استفحل والانهيارُ تجاوز الزمان والمكان ليخترق منّا الوجدان.
في مقهى ستاربوكس بشارع الحمرا التقيتُ بيار أبي صعب. عرَّجتُ قبلها باكرًا على صحيفة الأخبار للقاء أمل الأندري. أمل زميلة قديمة من أيام “الحياة” اللندنية. وظلت صداقتنا صافية متوهِّجة. أذكر مرّة أنني استدرجتُها لمرافقتي يوم عيد الفطر إلى مخيم عين الحلوة لنُعيّد على إخواننا من فلسطينيي المخيم. كانت مغامرة مثيرة عاتبني عليها بعض الزملاء في مكتب الحياة ببيروت أيامها واعتبروها زجًّا متهوِّرًا مني ببنت العم جوزيف الأندري فيما لا قِبَل لها به. لكنهم لا يعرفون أن أمل فلسطينية أكثر من بعض الفلسطينيين.
تعرّفت في “الأخبار” على “بيلّا” كلبة أمل التي ترافقها إلى الجريدة. ونحن نشرب قهوتنا ، كانت بيلّا تتحرّك بين أرجلنا بغبطة واستثارة. تغادر مكتب أمل لتركض قليلا بين المكاتب ثم تعود. يبدو أنها لا تزعج أحدًا. الكل في الجريدة مستأنس بها. ثم غادرتُ مقر “الأخبار” للقاء بيير. كان بيير قد غادر الأخبار بدوره باتجاه قناة الميادين حيث يقدِّم برنامجا سياسيا مثيرا للجدل عنوانه “في كل الأحوال”. اشتغلتُ مع بيير في الحياة اللندنية ثم أصدرنا ونحن بَعدُ في الحياة “زوايا”، تلك الومضة الصغيرة المدهشة في تاريخ الصحافة الثقافية العربية، وبعدها “استقطبني” للكتابة معه في “الأخبار” وهو ما استمر لسنوات معدودات قرّرتُ التوقف بعدها.
حاول بيير استعادتي إلى صفحاته الثقافية مرارًا لكنني فضّلت التفرّغ للتلفزيون وقتها. احترم بيير قراري في صمت. بيد أنه بقي حريصًا مثلي على الاحترام الذي استتبَّ بيننا، كما ظلت المودة بيننا هي الأصل. حين التحقتُ بمجلس أمناء البوكر، الجائزة العالمية للرواية العربية، كنت أعرف موقف بيير النقدي من الجائزة، فاستدرجتُه بدوري إلى إحدى لجان تحكيمها. وهناك خبِرَ الجائزة من الداخل. تعرّف على آليات اشتغالها. على الأقل تأكّد من أن مجلس أمنائها يعرف كيف ينسحب تمامًا إلى الظل ما إن نُعيِّن لجنة التحكيم. قلت لبيير صادقًا أنني منذ التحقتُ بمجلس الأمناء لم تحظَ قطُّ الرواية التي رشّحتُها وتمنيتُ فوزها بالجائزة. مرّاتٍ لا تحظى رواياتي المفضّلة حتى ببلوغ القائمة القصيرة. مع بيير، نعرف كيف ندبّر اختلافاتنا وكيف نُعلي من مقام الصداقة، أو كيف نحميها على الأقل.
بعد لقاء بيير، استقلّيتُ تاكسي إلى مقهى الروضة للقاء زاهي وهبي. كان لقاء تحضير للحلقة التي ستجمعُنا بـ “بيت القصيد”. البرنامج يُطفئ شمعته العاشرة هذه الأيام وهو ما يُعدُّ انتصارًا صغيرًا وجميلًا للثقافة على اللاثقافة التي تصول وتجول على الشاشات في تلفزيونات عالمنا العربي. قلت لزاهي إنني تأخرت كثيرا عن زيارة الروضة. مقاهي شارع الحمرا تحتلُّني ومواعيدُها تستغرقني كلما حللتُ ببيروت. لكن يبدو أن زاهي يُفضّل مجاورة البحر على مجالسة الشعراء. ثم إن البحر شاعرٌ أيضًا. وبحر بيروت تحديدًا شاعرٌ يفتن الغاوين، غاوٍ يراود الشعراء عن خيالاتهم وبنات رؤاهم.
لا يمكنني أن أكون هنا ببيروت ولا أزور المورد وهي مؤسسة إقليمية غير ربحية تسعى إلى دعم الإبداع الفني في المنطقة العربية وتشجيع التبادل الثقافي داخل المنطقة وخارجها. كنت في مجلس إدارة هذه المؤسسة الثقافية العتيدة إلى حدود أسابيع قليلة خلَتْ، وكنت مرشّحًا من طرف أكثر من صديق من الجمعية العمومية لمجلس إدارتها الجديد، بيد أن مؤتمرها الأخير صادف موعد إعلان جائزة البوكر للرواية العربية، ولأن وجودي في أبو ظبي ضروري خصوصا وأنني مكلّف بتنسيق حفل إعلان الجائزة وتقديمه، فقد اعتذرتُ عن بيروت وعن مؤتمر المورد. هكذا غادرتُ مجلس إدارة المؤسسة وعدت إلى صفوف أعضاء جمعيتها العمومية سالمًا مُفعمًا بالرِّضى عن مجهود استثنائي بذلناه في المجلس السابق خلال سنوات كورونا الصعبة. لكنني لا أستطيع المرور ببيروت دون أن أطرق باب المورد. فهي عائلة أخرى من بين العوائل البيروتية التي أنتمي لها وإلى آفاقها الثقافية والفكرية أنشَدّ.
زوالًا طرقتُ باب مبنى غزاوي بشارع بلِيس بالحمرا وكان الجو حارًّا. اجتماع صغير. قهوة. مرطّبات، ثم اقترحت الصديقتان إيلينا ، مديرة المورد، ومعها الفنانة السورية ريم خطّاب أن نتناول غداءنا في مطعم هندي بالجوار. المطعم جديد تم افتتاحه حديثًا، أيام كورونا. ولم يكن به زبائن غيرنا. لكن أكلهم كان طيبا.
أخبرتني ريم أن مركز بيروت للفن يعرض تجهيزًا تفاعليًّا تحت عنوان “من قتل يوسف بيدس؟”. العمل حائزٌ على دعم برنامج المنح الاستثنائية للمورد وهو من إنجاز فنانة لبنانية شابة اسمها كريستيل خضر. اقترحَتْ ريم أن تحجز لي لكي أحضر العرض ممثلا للمورد، وكذلك كان. في بهو مركز بيروت للفن التقيت العزيزين حنان الحاج علي ورفيق دربها روجيه عساف. أسعدني اللقاء كثيرا، فأنا أحب هذا “الكوبل” الاستثنائي. أحب حنان وروجيه في ذاتهما، كلًّا بما يمثل لي على المستويين الفني والإنساني، ثم أحب علاقتهما وحوارهما المُمتدّ عميقًا عبر عقود من العطاء المسرحي والفني، كما أحب شغفهما بالثقافة والفن، باعتبارهما مشاريع وأعمالا منجزة، لا أفكارًا وقضايا وسجالات.
لكنْ “مَن قتل يوسف بيدس؟”
بحثًا عن الجواب ولجتُ فضاء العرض الذي كانت تتوسَّطه طاولة مستطيلة هي الخشبة وموقع الجمهور الذي لم يكن يزيد عن 24 شخصا. قعدنا متناظرين. اكتشفنا أن كريستيل خضر قد تلاعبت بنا واستدرجتنا إلى عرض حوّلتنا خلاله إلى ممثلين. كانت مقاعدنا مرقّمة وصوت أنثوي غامض، لعله صوت كريستيل يوزّع علينا أوامره بالقسطاس، ونحن أرقامٌ عليها أن تمتثل وتنفّذ، عليها أن تختار بين السيء والأسوء، بين المجّانيّ والعبثيّ، وهكذا استدنْنا واستثمرنا وتبادلنا السّندات وانتهينا جميعًا إلى الإفلاس في ربْكَةٍ مسرحية محكمة حاولَت استعادةَ سيرةِ المصرفي الفلسطيني يوسف بيدس الذي كان منذ 1943 مديرًا عامّا للبنك العربي المحدود في القدس. وبعد نكبة 1948 انتقل إلى لبنان حيث أسّس في 51 بنك انترا الذي اعتُبِر أكبر مؤسسة مصرفية لبنانية حتى إفلاسه سنة 1966.
هذه السيرة المصرفية اللافتة ساهمت طاولتُنا في استعادة بعض عناصرها وفي تفكيكها من جديد على ضوء الانهيار الحالي للمصارف اللبنانية.
كان يوسف بيدس مجرّد ذريعة. وكنا مجرّد جمهور أبكم ظنّ عبثًا للحظةٍ أنه يمثل، وأن له الحق في المبادرة بفعلٍ – أو حتى ردّ فعلٍ- فوق الخشبة المستطيلة التي كنا مشدودين إليها. لكن هيهات.
ذهبتُ إلى العرض ظانًّا أنني سأحضر عملا بوليسيا يحبس الأنفاس، وأنني سأعرف بعض أسرار وفاة بيدس في سويسرا سنتين بعد انهيار إمبراطوريته المصرفية. لكنني وجدت نفسي أمام انهيار لبنان. انهيار بيروت. واندحار القيم.
قالت لي حنان الحاج علي في نهاية العرض أنها ستحضر في اليوم الموالي معرضا في هنغار “أمم للتوثيق” وذلك بحارة حريك، بالضاحية الجنوبية لبيروت. كانت المخرجة الأمريكية مونيكا بورغمان قد حضرت معنا العرض المسرحي، جلست أمامي مباشرة، وتبادلتُ معها بعض السَّندات خلال العرض، وأذكر أنها أفلست قبلي. لذا تحمّستُ لحضور معرض يحتضنه فضاء ثقافي خلّفه زوجُها الشهيد لقمان سليم في قلب حيه القديم. الثقافة ملاذنا الجماعي من الإفلاس ومن الانهيار العظيم. ثم، من يدري؟ قد أجد شقيقة لقمان الصديقة رشا الأمير هناك. آخر معرض فني حضرْتُه ببيروت قبل سنوات كان معرضا فوتوغرافيا فلسطينِيَّ الهوى والحنين احتضنته دار النمر، وكانت رشا مَن دعتني إليه. واليوم هي فرصة لأفاجئها بحضوري معرضا يحتضنُه مرتعُ طفولتها. لكنَّ رشا لم تكن هناك. جاء المعرض الذي حضرتُهُ رفقة حنان الحاج علي بالهنغار على شكل تجهيز فني للفنان ألفرد طرزي تحت عنوان “ذاكرة مدينة من ورق”.
كان التجهيز جريئا وطريفا في الآن ذاته. أرشيفٌ ضخمٌ اشتغل عليه الفنان. عشرات بل مئات الأغلفة ورسومات الكاريكاتور والصفحات الداخلية لصحف ومجلات لبنانية صدرت في بيروت ما بين ثلاثينيات وثمانينيات القرن الماضي، من خلالها حاول ألفرد طرزي استعادة بيروت الضائعة، إعادة ترميمها، لكنه ترميم ورقيٌّ هشّ. كان طرزي مشغولا مثلنا جميعًا ببيروت، محاوِلًا عبثا اختراقَها.
فكرتُ في حسن عبد الله من جديد: “ودخلتُ في بيروت…” واستعدْتُ سؤاله الفادح: ” مِن أين أدخلُ في الوطن؟ ” أما طرزي فحاول ولوج هذه المدينة التي تختزل وطنًا من بابين لهما نفس الدّفة، ذاتُ المقبض والإهاب: المرأة والعنف. المرأة كنزوعٍ إلى تحرُّرِ المدينة والإنسان والجسد والمجتمع من جهة، لكن كصورةٍ تمَّ استغلالُها تجاريا من طرف الإعلانات وتُجّارها من جهة أخرى. ثم العنف باعتباره طاقة ثورية سرعان ما تحوّلت إلى احترابٍ طائفي نتجت عنه حرب أهلية مدمّرة مزّقتِ المدينة في مرحلة حرجة من تاريخها المعاصر إلى أشلاء.
ودخلتُ في بيروت. أبحث بدوري عن المدينة في المدينة. أبحث عن بيروت في قاعات الفنون ومعارض الصور. لكن ماذا عن السينما؟ سألتني حنان: “هل شاهدت “البحر أمامكم”؟ أجبتُها بالنفي، فاقترحَتْ أن نذهب من توِّنا لمشاهدته. زرنا قبر لقمان سليم في بيته المجاور للهنغار، وانطلقنا باتجاه أقرب قاعة سينمائية.
البحر أمامكم. لكن أين العدو؟ تذكرتُ الفاتح الأمازيغي المسلم طارق بن زياد. تذكرت خُطبَته البليغة التي لم يحفظ لنا التاريخ بدقةٍ مَن كتبَها لهُ من أتباعه، لكنها نُسِبت إليه واشتهرت باسمه:
” البحرُ مِن ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصّدق والصبر”.
لم يرُق لي فيلم إيلي داغر، لكنني وجدته صادقًا. فيلم يعكس حيرة صاحبه الوجودية ويعكس التباس العلاقة مع بيروت. البحر أمامكم يا إيلي، لكن ماذا عن العدو؟
الإنسان عدوُّ نفسه، هكذا يقول الفيلم. والمدينة تعادي أهلها. وبيروت تفقد سحرها في الفيلم لتصير أشبه بسجن كبير اختارتْهُ بطلة الفيلم الشابة العائدة مُحبطةً من باريس ملاذًا. أصاب البنت “سأم باريس”- بالإذن من بودلير- فاحتمت منه بسأمٍ ألعن، هو “سأمُ بيروت”، فأضْحَت كالمستجير من الرّمضاء بالنار. قلقُ صانع الفيلم عميق أصيل. قلق وجودي نجح في نقله إلينا لكنه ظلَّ يُراوح ذات المكان في مشاهد مكرورة تكاد تدور في حلقة مأزومة مفرَغة لا تجترح لا للحبكة ولا للشخصية الرئيسية أيَّ أفق، لا وجودي ولا درامي، فأصابني الملل. علمت أن المخرج مُدلّل في “كان”، لكنني لا أثق كثيرا في الفرنسيين وأعرف أن الماكينة لديهم تشتغل وفق حساباتٍ ليست فنية دائما خصوصا حين يتعلق الأمر بالسينما المغاربية وشقيقتها اللبنانية. لكنني من النوع الذي لا يغادر فيلما في منتصفه مهما كان بائسا. بعد نهاية الفيلم شكرت حنان الحاج علي على كرم الدعوة وغادرت “بيروت” الفيلم إلى “بيروت” التي أعرف. كان هاتفي مغلقًا ساعة العرض السينمائي حينما اتصلت أميمة الخليل. تركت لي رسالة على الواتساب تقترح أن ألتحق بها هي وهاني سبليني، زوجها، إلى عشاء في محلّ “لذيذ” بفُرن الشُّبّاك. لكن حين شغّلت هاتفي بعد الفيلم كانا قد غادرا المطعم، هكذا اتفقنا على أن نفطر في الغد سوية في مطعم “مزيان”، هناك في شارع الحمرا.
سألتُ منصور صاحب المطعم عن سرِّ التسمية فأكد لي أنها مغربية. وحدّثني عن شريكه المغربي الذي أطلق معه هذا المشروع أول مرة قبل أن ينسحب. كان منصور يكلمني باللهجة المغربية استعراضًا وكذا تأكيدًا على هَواهُ المغربي. إلى جانب “مزيان” زرت مقهى وحانة ومكتبة “برزخ” التي افتتحها منصور في الحمرا دائمًا. فضاء ثقافي على شكل مكتبة شخصية يمكنك أن تشرب داخلها ما شئت وأنت بين الكتب تتصفّح وتقرأ وتقتني ما شئت، إذا شئت. فضاءٌ يشبه إلى حدّ ما “تاء مربوطة” لكن بهيمنةٍ واضحة لفضاء المكتبة ورفوف الكتب داخل المحل. أخبرني منصور أنه مشغول بالبحث عن أسبابٍ للتواصل المباشر مع ناشرين مغاربة لتأمين حضور أقوى للكتاب المغربي في فضائه الطريف الذي يُجسّر الهوة بين أصدقاء الكتاب وعُشّاق السّهر، فوعدتُه بمتابعة الموضوع.
على مائدة الإفطار كانت أميمة صبوحة متألقة. هناك طراوة في وجه أميمة وفي صوتها لا تغادرها أبدًا. لا في الصبح ولا في المساء. لا في البلد ولا خارجها. كلما التقيتها تذكرتُ “الحلوة التي قامت تعجن في الفجرية”. طراوة النهار ساعة الفجر. طراوة الوجه الصبوح في الصباح. وطراوة خبز “الفجرية” الساخن والطازج. هكذا أتخيل أميمة ساعة البُعد وهكذا اراها حين التقيها مباشرة. كان هاني كعادته بشوشا مضيافًا مريحًا. أعرف قدرته العالية على التّنكيت، لذا بادرتُه بقفشاتٍ من جنسِ قفشاته. كأنّي أخذتُه على حين غرّة، فهو لم يفطر بعد. كان الفطور شهيا: فول وحمص وخضار وخبز وقهوة لبنانية. التحق بنا زاهي وهبي فازدادت الجلسة حرارة. فاجأني أنَّ زاهي يلج “مزيان” لأول مرة رغم أن المحل مفتوح في الحمرا منذ عقد تقريبًا. لكن يبدو أن الرجل غادر مقاهي الحمرا مبكرًا وصار مستغنيًا بمقهى الروضة، على الكورنيش، عن غيرها.
في المساء، سبتًا، قررتُ مغادرة غرفتي لأعانق المدينة، فرحلة عودتي الأحد. غادرتُ فندقي بمنطقة فردان وقررت التحرُّك راجلًا باتجاه الحمرا. كانت الطرق باتجاه الحمرا مظلمة موحشة. طبعًا سيكون من العبث مطالبة البلدية بإنارة الشوارع في وقتٍ يتواصلُ فيه انقطاع التيار الكهربائي عن المنازل والشقق لمدة قد تبلغ العشرين ساعة يوميا. ومع ذلك كان هناك مقهى يشغّل مولدا كهربائيا على ما يبدو في شارع خلفي طويل اخترقتُه في طريقي إلى الحمرا. كانت هناك لافتة معلقة أمام باب المحل، مكتوب عليها: “وتبقى بيروت درّة الشرق وسيدة العواصم”. التقطتُ صورة لليافطة فنظر إليَّ شباب يشربون الأرجيلة في المقهى بارتياب وعدم رضى. لعلهم تصوروا أنني قنصتهُم في الصورة. واصلتُ سيري حثيثا باتجاه الحمرا وهناك ولجت “مزيان”. كان المكان قد تنصّل تمامًا من هدوءه الصباحي. بدا ضاجًّا بالصبايا والشباب. هناك موسيقى ورقص وضوضاء جميلة ذكّرتني بزمن بيروت الجميل. أيام العز. أيام كان الفرح وبهجة العيش هما الأصل في بيروت. انتبذْتُ مكانا أقصى الكونتوار ومنه بدأت أراقب الوضع. كان الفرح يخاصر البهجة والرقص على أشُدِّه حين وصلتني رسالة عبر الواتساب من المغرب. كانت من صحافي مغربي صديق. الزميل بعث لي فيديو يحمل تهديدًا مباشرًا من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي للبنان. لبيروت. لي. لهؤلاء الذين يرقصون أمامي: “أقول لسكان لبنان، أنصحكم بالرحيل، ليس فقط في بداية الحرب، ولكن من بداية التوتُّرات الأولى، وقبل إطلاق الرصاصة الأولى. أنصحكم بمغادرة تلك المناطق، لأنّ شدّة الهجوم ستكون شيئا لم تروه ولن تروه.”
إنه تهديد مباشر لنا جميعا. لي أنا الذي تخشَّبَتْ مؤخِّرتي على كرسيِّ الكونتوار. ولكُنَّ أيضًا أيتها الصبايا الراقصات بحماس على نغمات الشاب خالد “عبد القادر يا بوعلام ضاق الحال عْلِيَّ”. بحثت عن منصور صاحب المحل لأحذِّره. يجب أن يوقف الحفل فورًا، فهناك تهديد في الأفق. لكنني لم أره. لعله في “برزخ” الآن. غادرتُ من فوري. تمنيت لو أن طائرة عودتي ستحلّق الليلة قبل الغد. الخوف إحساس إنساني، لكن بيروت تشحنُك بالتحدّي. ليس بسبب شعارات سياسييها. أبدًا أبدًا. لكن أساسًا في لهْوِ شبيبتها المُطمَئِنِّ مساء السبت. اتصلت بمحاسن أطمئِنُّ على أحوالها وقفلت راجعًا إلى الفندق. تقلبت في سريري بعض الوقت، ثم شغّلت على اليوتيوب أغنية لأميمة الخليل:
يا ه ياه ياه يا شوارع
بيروت الحرب اليوميّة
يا مدينة يا مخزن هَمّْ
يا….
ياه يا بيروت.
° ° °
عدت إلى مراكش وفي نفسي شيءٌ من بيروت. لكن طمأنني أن الجنين يتوصَّل بالأكسجين والتغذية المطلوبين عبر المشيمة المُتكلِّسة. كأنّ الكالسيوم المتراكم على جدار المشيمة تعرّض لبعض التّشقُّقات. كان ذلك من حسن حظ الجنين. ومع ذلك، فالوضع يستلزمُ المراقبة. لن تنتظر الصَّبيةُ يومَ ولادتها الموعود. قد يحصل في أية لحظة ما يفرض عملية قيصرية تُعجّل بصرختها الأولى. وكذلك كان، فقد داهمتنا الصَّبيَّة صباحًا فيما كنا نتأهّب للذهاب إلى المسبح هربًا من قيظ مراكش. البنتُ الذي جاءت قبيل موعدها قليلا فاتها أن تزور بيروت وهي في بطن أمها. لكنني سأحكي لها حين تكبُر عن الحمرا، عن بيروت، وعن لبنان.
هذه البُنيَّة اسمُهَا: بيان.