كشف مبارك بودرقة، عضو المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (المجلس الوطني لحقوق الإنسان حاليا)، وهيئة الإنصاف والمصالحة، سابقا، معطيات مثيرةً بشأن ظروف التمهيد لـ”العدالة الانتقالية” في المغرب، حيثُ وُوجهت عدد من المطالب التي قدمها رفاق إدريس بنزكري، المعارضون السابقون للنظام، برفض من طرف أعضاء في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.
وقال بودرقة، في ندوة حول منجز العدالة الانتقالية في المغرب، نظمتها المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، بشراكة مع المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، إن ولادة العدالة الانتقالية بالمغرب “كانت ولادة عسيرة”، و”جوبهتْ بمعارضة قوية جدا”.
اعتذار للديوان الملكي
بودرقة استهل حديثه عن مخاض التحضير لتصفية ملف سنوات الرصاص بإماطة اللثام عن كواليس انضمامه إلى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، بعد عودته من فرنسا إلى المغرب، حيث نودي عليه من طرف الديوان الملكي، في شهر نونبر 2002، للالتحاق بالمجلس، غير أنه اعتذر، لسببين قال إنهما يعودان إلى وجود عائلته في فرنسا، ولأنه يرى أن “هناك مناضلين حقوقيين قادرين على أن يقوموا بالعمل الذي سيقوم به”.
وبعد شهر واحد فقط، تلقى بودرقة اتصالا جديدا من طرف الديوان الملكي، في شهر دجنبر من السنة نفسها، تم إخباره فيه بأن الملك محمدا السادس قرر تعيين ممثلين عن مغاربة العالم في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، هو واحد منهم، وقبِلَ هذه المرة، “لثلاثة أسباب، أولا احتراما لقرار صاحب الجلالة، ثانيا لأن المجلس في صيغته الثانية لا يقدم تعويضات مالية لأعضائه، وثالثا لأن لدي خارطة طريق لتصفية ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”.
وأضاف المتحدث ذاته أن “خارطة الطريق” التي أعدَّها حول تصوره لتصفية ملف الانتهاكات سلمها لرئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سابقا، عمر عزيمان، قبل انعقاد أول اجتماع للمجلس، ذاهبا إلى وصف المخاض الأول لطي صفحة سنوات الرصاص التي شهدها المغرب خلال العهد السابق بـ”الولادة العسيرة للعدالة الانتقالية”.
بودرقة قال إنه كان ينتمي إلى “تيار يريد إقامة التغيير بالسلاح”، وهو “الاختيار الثوري”، الذي غادره عام 1982، وزاد: “وضعتُ السلاح ودخلت إلى الفضاء الواسع لحقوق الإنسان، الذي أؤمن بأنه هو الوسيلة المثلى للتغيير”، مضيفا: “الذي يريد أن يطوّر بلاده ويغيرها فهذا هو المجال الذي يجب أن يشتغل فيه”.
وأردف المتحدث ذاته: “ناضلنا من داخل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وكنا سعداء بأننا وجدنا سي إدريس بنزكري الذي كان يشغل منصب الأمين العام للمجلس، واشتغلنا معا لتقديم توصية إقامة العدالة الانتقالية في المغرب، بعد أن استفدنا من تجارب جميع البلدان التي شهدت عدالة انتقالية، وقدمناها من أجل إدراجها كتوصية لعرضها في الجلسة العمومية للمجلس”.
رفاق بنزكري اختاروا لتوصية إقامة العدالة الانتقالية في المغرب عنوان “هيئة الحقيقة والمصالحة”، ولقي العنوان المُقترح معارضة وصفها بودرقة بـ”الشديدة جدا”، غير أنه استدرك بأن المعارضين السابقين للنظام أبدوا تفهمهم للموقف المعارض الذي وُوجهوا به، قائلا: “لم نعتبرهم خصوما، بل وطنيين لديهم الحق، لأنهم ناقشوا معنا الأمر بشكل علمي، وقالوا إن العدالة الانتقالية لا تُقام إلا في البلدان التي شهدت حروبا أهلية، وجرائم في حق الإنسان”.
معارضة أحرضان وغضب بنزكري
وكشف بودرقة أن المحجوبي أحرضان قال له: “كيفاش انت عيّْنك صاحب الجلالة عضوا في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وتمشي مع الآخرين (يقصد معارضي النظام السابقين)”، مضيفا: “هو رجل وطني، كيبغي بلادو هاكا، وقلت له أنا من الآخرين جيتْ، وجلالة الملك عيّننا من أجل البحث عن مصلحة المغرب، وماشي غير انتوما بوحدكم اللي عندكم الكبدة على المغرب، حتى حنا عندنا الكبدة على بلادنا”.
أحرضان، الذي كان عضوا في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، عارض بشدة إقامة العدالة الانتقالية في المغرب، إذ قال لبودرقة، بحسب رواية الأخير: “هادي أربعين عام وحْنا مدّابزين مع حزب الاستقلال والاتحاد (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، ودبا تصالحنا، آشْ بغينا مزال المصالحة ديالكم”.
واعتبر بودرقة أن الظروف التي كانت سائدة في بداية الألفية الحالية لم تكن مساعدة على إطلاق مسار العدالة الانتقالية في المغرب، بسبب جملة من العوامل المتداخلة، ومنها وضعية القضية الوطنية، “التي كانت في الحضيض”، وتوتر العلاقات المغربية الإسبانية بسبب جزيرة ليلى، ثم الانفجارات التي شهدتها مدينة الدار البيضاء سنة 2003.
في هذا المناخ المتوتر، برز من جديد الموقف المعارض للمحجوبي أحرضان إزاء العدالة الانتقالية، إذ قال بودرقة: “في الاجتماع الثاني للمجلس، جاء عندي وسألني، أفْلان، الناس اللي جاوْ يفجّْروا المغرب حتى هوما من دبا خمس سنين ولا ستّ سنين نعطيوهم تعويضات ونعتذرو لهم؟”.
وكان ردّ بودرقة، بحسب روايته: “قلت له، سي أحرضان إيلا هاد الناس اعتُقلوا وعُذبوا، ولم يستفيدوا من ضمانات المحاكمة العادلة، علينا أن نعتذر لهم، ونعوّضهم عن الضرر الذي لحق بهم”.
واستطاع “معارضو النظام” سابقا أن يصمدوا في وجه معارضي العدالة الانتقالية بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، إذ تم إحداث لجنة خاصة، “نصفها معَ، ونصفها ضد، برئاسة عمر عزيمان”، وفق المتحدث ذاته، مردفا: “اشتغلنا بالمليمتر، وكنّا كنْدّابزو على كل فقرة باش كلشي يدوز، ولكن كانت هناك التنازلات التي تُفضي إلى تحقيق الهدف المنشود من كِلا الطرفيْن”.
ومن بين التنازلات المقدمة من طرف معارضي النظام سابقا المعيّنين في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان تنازلهم عن اسم “هيئة الحقيقة والإنصاف”، وتعويضها بـ”هيئة الإنصاف والمصالحة”، إذ وُوجه الاسم الأول بمعارضة المحسوبين على النظام داخل المجلس، “وكانوا يقولون لنا أنتم لا تمثلون الحقيقة، بل تريدون تحطيم النظام، وحملتم السلاح”، يقول بودرقة.
النقطة الثانية التي كانت محطّ خلاف كبير بين الطرفين تتعلق بتعويض المنفيين، إذ رفض الطرف الثاني تعويض معارضي النظام المنفيين خارج المغرب، بحسب بودرقة، مضيفا: “قالوا يستحيل هاد الناس اللي كالسين على برا (المنفيون) نعوضوهم، عندهم بارات ومطاعم وعايشين مخيرين مع راسهم، ونجيو دبا نعوضوهم”.
وتابع المتحدث ذاته بأن عمر عزيمان، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، كلّفه، خلال الاجتماع، بإيجاد حل للخلاف بين الطرفين حول مسألة تعويض المنفيين، وتم الاهتداء إلى التجارب المقارنة، حيث تم تعويض المعارضين المنفيين، سواء في الخارج أو الخارج.
وأثارت نقطة حفر مقابر ضحايا سنوات الرصاص بدورها معارضة شديدة داخل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، حيث رفض الأعضاء المحسوبون على النظام الأمر، واضطر الأعضاء من معارضي النظام سابقا إلى “اللعب على الكلمات، وتم الاتفاق على ‘الوقوف على المقابر’، عوض ‘حفر المقابر’”، بحسب شهادة بودرقة.
وكشف المتحدث ذاته أن إدريس بنزكري غضب بسبب عدم الالتزام بوعود تلقاها ورفاقَه بخصوص تدبير العدالة الانتقالية، وغادر إلى مدينة الهرهورة وأغلق هاتفه، قبل أن يعود إلى مواصلة التفاوض، مضيفا: “ملي كتدخل في معمعة بحال هادي خاصك تمشي فيها حتى النهاية”.
كما اعتبر بودرقة أن السياسة التي نهجها رفاق إدريس بنزكري، والقائمة على التمسك بالحوار من أجل تحقيق المطالب، كانت مثمرة، قائلا: “في النهاية لم نكتف بالوقوف على المقابر، بل حفرناها، وسُمّيت الهيئة بالاسم الذي اقترحناه ورُفض، حيث قال الملك في خطاب تنصيبها بأكادير: ‘أنتم هيئة الحقيقة والإنصاف والمصالحة’، والظهير الذي صدر في الجريدة الرسمية سمّى الهيئة ‘هيئة الحقيقة والإنصاف والمصالحة’، وهذا يعني أن الدولة لديها إرادة، وتبقى المسائل الخلافية راجعة إلى مواقف شخصية”.
رصاصة واحدة تُزهق ثلاثة أرواح
وكشف مبارك بودرقة أن منهجية اشتغال هيئة الإنصاف والمصالحة، التي أنشأتها الدولة من أجل جبر ضرر ضحايا سنوات الرصاص، كانت تقوم على المقاربة التشاركية مع مختلف الشركاء، ومنهم الشركاء الحقوقيون، الذين ساهموا في بناء مسار حقوق الإنسان بالمغرب، مبرزا أن هؤلاء كانوا يحضرون جميع الندوات التي تنظمها الهيئة، ويتم اعتماد مقرراتهم، ويكونون أوَّل من يتم إطلاعهم على المعلومات السرية، مثل حفر القبور وعقد جلسات الاستماع للضحايا، قبل إخبار الرأي العام بها عبر الصحافة.
وبلغة واثقة أكد بودرقة أنه “ليس هناك ضحية من الضحايا لم يتم الاستماع إليه، في جميع مناطق المغرب”، وزاد: “حضّرنا قوائم الضحايا، وذهبنا عندهم، عبر أطقم، وكلفنا فرقا بملء ملفاتهم، باش منعدبوهومش، وفي الأخيرة نجهّز بطاقة خاصة لكل ضحية، تتضمن معلوماته الشخصية، وتاريخ اعتقاله، والأحكام الصادرة في حقه، والسجون التي اعتقل فيها…”.
واعتبر المتحدث ذاته أن العصب الحساس في عملية الكشف عن حقيقة ما جرى في سنوات الرصاص تمثّل في الكشف عن المقابر، إذ تم تحديد ثلاث منها، وهي تازمامارت، وقلعة مكونة، وتكُونيت، مشيرا إلى أن هذه العملية تطلبت من هيئة الإنصاف والمصالحة التعاطي بمرونة مع الدولة ممثلة في وزارة الداخلية ووزارة العدل.
وواصلت لجنة التنسيق التابعة لهيئة الإنصاف والمصالحة نهج سياسة المرونة مع وزارة الداخلية، إذ طلبت حفر خمسين قبرا، 16 قبرا في قلعة مكونة، و32 في أكدز، واثنين في تكونيت. واستدعت وزارة الداخلة عمّال الأقاليم المذكورة، وأعطيت لهم تعليمات بإرشاد الهيئة إلى خمسين قبرا المطلوبة في ظرف أسبوعين.
وبعد مرور الأجل المحدد للعملية، صُدم أعضاء لجنة التنسيق بهيئة الإنصاف والمصالحة، بعد اجتماعهم مع العمّال في وزارة الداخلية، “حيتْ لقينا سبعة قبور فقط”، يقول بودرقة، مضيفا: “كانت صدمة كبرى، وطلبنا اجتماعا مع الداخلية لوحدها، وخرجنا بستة عشر قبرا، ولكن سطّاش ماشي هي خمسين قبر”.
غداة ذلك، يردف المتحدث ذاته، اجتمعت لجنة التنسيق برئاسة بنزكري مع مسؤولي وزارة الداخلية، وتم التداول في الموضوع، حيث اقترحت اللجنة أن تتولى البحث عن قبور ضحايا سنوات الرصاص بنفسها، عن طريق الاستعانة بحفاري القبور وحراس المقابر والقياد وجيران الضحايا، وسجلات حفظ الموتى، والسياسيين المتتبعين.
وقدم بودريقة معطيات صادمة حول الطريقة التي قُتل بها بعض ضحايا سنوات الرصاص، ففي الأحداث الاجتماعية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء سنة 1965 لقي أحد المتظاهرين حتفه برصاصة قوات الأمن، وعندما عثرت عليه زوجته مرميا في الشارع توفيت بدورها بسكتة قلبية، وكانت حاملا، مضيفا: “رصاصة واحدة أزهقت ثلاثة أرواح”.
ورغم كل الصعوبات والعراقيل التي واجهتها هيئة الإنصاف والمصالحة، إلا أن بودرقة شدد على أن تشبّث الهيئة بالحوار كان اختيارا صائبا، داعيا إلى التشبث بهذا المبدأ لتسوية المشاكل القائمة حاليا، بقوله: “الحوار ثم الحوار ثم الحوار، فالحوار لا يضر البلد أبدا، وإذا لم يُفض إلى أشياء إيجابية فلن يضر، ومَن يريد أن يُحدث التغيير فإن مجال حقوق الإنسان هو المجال المناسب”.