كشف المنشور التوجيهي لرئيس الحكومة بمناسبة إطلاق مسلسل إعداد “مشروع قانون السنة المالية 2023” أهدافا “جد طموحة” تتعلق بمحاربة “الهدر المدرسي”، سبق لرئيس الحكومة أن أعلنها بوضوح في جلسة مساءلة بمجلس المستشارين بداية يوليوز الماضي.
ومن بين أهداف أخرى تتعلق بتجويد التعلمات وخدمات النقل والإطعام المدرسييْن ورفع مستوى تكوين الأطر التربوية، أوردت المذكرة المؤطرة لـ”مالية 2023″، في الشق المتعلق بـ”الأولوية الأولى تعزيز أسُس الدولة الاجتماعية”، أن “الحكومة ستعمل على تنزيل خارطة الطريق لإصلاح المنظومة التعليمية، خلال الفترة 2022-2026، التي تهدف إلى خفض نسبة الهدر المدرسي بمقدار الثلُث”، لافتة إلى أن ذلك جاء “وعيا منها بأهمية إصلاح منظومة التربية والتكوين، ودورها في تحقيق التماسك والعدالة والسلم الاجتماعيين، ولكون الارتقاء بالعنصر البشري من ركائز الدولة الاجتماعية”.
وضعية غير مُرضية
على الرغم من الجهود التي تبذلها الوزارة الوصية على القطاع للحد من ظاهرة “الهدر المدرسي”، فإنه يستمر في “إبعاد مئات الآلاف من التلاميذ بالمغرب عن مقاعد الدراسة”. آخر المعطيات المتوفرة قرعت جرس الإنذار إلى انتشار الهدر في صفوف التلاميذ وطنيا بنسبة 5.3 في المائة، بينما ترتفع في القرى إلى 5.9 في المائة.
وفي وقت أقر شكيب بنموسى، وزير التربية الوطنية والرياضة والتعليم الأولي، في جلسة سابقة للأسئلة الشفهية لمراقبة العمل الحكومي بمجلس النواب (نهاية يونيو 2022)، بأن الهدر المدرسي في المغرب ما زال يعيش “وضعية غير مُرضية”، ذكر أن عدد التلاميذ الذين ينقطعون عن الدراسة سنويا، في الأسلاك الأولى (الابتدائي والإعدادي والثانوي)، يزيد عن 331 ألف تلميذة وتلميذ.
وأكد بنموسى أن محاربة الهدر المدرسي توجد في صلب الأهداف التي يتوخى مشروع خارطة الطريق لإصلاح المنظومة التربوية تحقيقها”، مضيفا أن الوزارة اتخذت مجموعة من التدابير للحد من هذه الظاهرة؛ في مقدمتها “تعميم التعليم الأولي، وتوسيع العرض المدرسي عبر الاهتمام بالمدارس الجماعاتية، وتقوية التعليم الإعدادي في العالم القروي، وتعزيز الدعم الاجتماعي المخصص للتلاميذ”.
وقد جدد الوزير الوصي عن قطاع التعليم تأكيده على عزم الوزارة محاربة الهدر المدرسي بمقاربة لا تهمل البعد الاجتماعي، قبل أيام قليلة خلال جلسة في “ملتقى دولي حول الحماية الاجتماعية” بالصخيرات، حين ربط المسؤول ذاته بين “تعميم التعويضات العائلية على الأطفال” وأثر ذلك إيجابيا على الرفع من نسبة المتمدرسين.
كما تعول وزارة التربية الوطنية، أيضا، على مراكز “الفرصة الثانية”، عددها حاليا 142 مركزا في مجموع التراب الوطني، تستقبل حوالي 11 ألف متعلم ومتعلمة، يستفيدون من تأهيل تربوي ومهني.
وبخصوص توفير النقل المدرسي لتلاميذ المناطق القروية وشبه القروية، كان بنموسى قد أفاد، خلال الجلسة البرلمانية ذاتها، بأن “عدد المستفيدين من هذه الخدمة حاليا بلغ أزيد من 442 ألفا”، مشيرا إلى أن الوزارة تشتغل، بشراكة مع برامج “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”، على دراسة لتحسين وضعية النقل المدرسي عبر تجويد تدبير هذا القطاع وتوسيع عرضه.
مشروع مجتمعي
حددت الحكومة، في ولايتها الحالية على لسان رئيسها، ستة مداخل إصلاحية تطال منظومة التربية والتكوين، “ستمكننا من تنزيل توصيات النموذج التنموي الجديد، الذي دعا إلى وضع المدرسة في صلب المشروع المجتمعي″، وفق رئيس الحكومة الذي شدد على عزمها وسعيها إلى تحقيق عدد من الأهداف في أفق سنة 2026.
في هذا الصدد، التزم رئيس الحكومة، في جلسة للمساءلة بمجلس المستشارين، بـ”خفض نسبة الهدر المدرسي بمقدار الثلث، وتجويد المكتسبات والتعلمات في المدرسة من خلال زيادة معدل تمكين المتعلمين من الكفايات الأساسية إلى 70 في المائة، بدل المعدل الحالي الذي لا يتجاوز 30 في المائة”، فضلا عن مطالب أخرى.
مصدر من وزارة التربية الوطنية قريب من الملف، تحدثت إليه هسبريس، قال إن “هدف الوزارة هو تعليم عمومي ذي جودة لجميع المتمدرسات والمتمدرسين، من أجل أفراد فاعلين قادرين على تحقيق ذواتهم”، لافتا إلى أنه “لا يمكن للكل أن يصير طبيبا ومهندسا؛ ولكن التعلمات التي سيتلقونها ستؤهلهم إلى الابتكار والتفكير والنقد وبناء مُواطن فعال متشبع بروح المواطنة، يمكنه تحقيق العطاء الشخصي والمهني في مجال شغفه واهتمامه”.
وتابع المصدر شارحا أن “أهداف خارطة الطريق من أجل نهضة تربوية في أفق 2026 تتضمن أول هدف لها يتعلق بتحقيق إلزامية التعليم من خلال “الأثر الملموس على الجودة والتلاميذ”، موردا أن “ضمان جودة التعلمات الأساس ستجعل ثلثيْ التلاميذ ينجحون في دراستهم”.
وخلص المتحدث بالقول: “يتعلق الأمر بمجموعة من الاختيارات والرهانات، تبدأ أولا بتعميم تعليم عمومي أولي ذي جودة، مرورا بتعزيز تكوينات الأساتذة سواء التكوين الأساس أو التكوين المستمر مثال الاتفاقية الموقعة مع وزارة التعليم العالي بخصوص تكوين الأساتذة وهو مشروع خُصصت له ميزانية ضخمة)”، خاتما بأن “محاربة الهدر ورش ومشروع مجتمعي يقتضي انخراط مساهمة وتعبئة الكل”.
إمكانيات هائلة
لحسن مادي، خبير في التربية وأستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط (جامعة محمد الخامس)، سجل أن الهدر في الوسط المدرسي “معضلة كبيرة تشتكي منها المنظومة التعليمية الوطنية، ومغادرة تلاميذ لمقاعد الدراسة قبل استكمال تعليمهم الأساسي يشكل خسارة للبلد ويعطل التنمية”.
وأضاف مادي، في تصريح لهسبريس، أن خطة الفاعل الحكومي بخفض نسبة الهدر في أفق نهاية الولاية التشريعية الحالية يظل “طموحا مشروعا يتحمل فيه الوزير الوصي مسؤوليته بتحقيق ما وعد به، لا سيما أنه معروف بنهج تخطيطي ونزاهة في مساره”، قبل يستدرك: “لكن يتطلب الأمر، فضلا عن الإرادة المؤسساتية، إمكانيات مادية هائلة وتحقيق مجموعة شروط ستجعل تحقيق الدولة الاجتماعية ممكنا”.
في هذا الصدد، شدد الخبير التربوي ذاته في معرض حديثه على أولوية “تحسين ظروف استقبال التلاميذ منذ المستويات الأولية، فضلا عن تدابير محاربة تغيب الأساتذة وتجويد تكويناتهم. كما أن ربط الهدر المدرسي بتعميم الدعم الاجتماعي خطوة لا يمكن إلا تثمينها”.
إرادة واقعية
باعتبارها شريكا في الإصلاح، وتدابير تنزيله في مدارس المملكة، تراهن النقابات في قطاع التعليم على “توفر إرادة وقرار سياسي حقيقي تُتَرجَم عبر رصد إمكانيات مادية ولوجستية”؛ وهو ما ذهب إلى تأكيده عبد الغني الراقي، عضو المجلس الوطني لـ”النقابة الوطنية للتعليم” (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل)، في حديث مع هسبريس.
وسجل النقابي ذاته، في تصريحه، بكل أسف، “تعاقُب إصلاحات فاشلة للتعليم وصل عددها 13 مخططا منذ استقلال المغرب”، لافتا إلى أن “الإقرار بالفشل كان رسميا مثلا في تقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين الذي رصد 400 ألف حالة هدر في موسم 2009”.
وخلص الراقي إلى أن “مبادرة الفرصة الثانية تعد مفارقة، إذ نفقد التلميذ في المدرسة، ثم نعود للبحث عنه حين يكبر من أجل استكمال دراسته وتعليمه من جديد”، منبها إلى خطورة الهدر ومساهمته المباشرة في تفشي وتفاقم أعطاب وانحرافات اجتماعية”.