فتح المجلس الجماعي لمراكش، الذي ترأسه فاطمة الزهراء المنصوري، بحثا علنيا لمشروع “تصميم التهيئة القطاعي للحي الصناعي القديم لمراكش”، الذي يوجد بالمجال الترابي لمقاطعتي المنارة وجليز. ويأتي ذلك تنزيلا لتوجيهات وزيرة إعداد التراب الوطني والإسكان وسياسة المدينة الرامية إلى إيلاء العناية القصوى بالمدن القديمة والأنسجة العتيقة ببلادنا، وتعميم التغطية بوثائق التعمير.
ويعود هذا الحي الصناعي القديم إلى سنة 1912، التي شكلت تاريخا لدخول المغرب عهد الحماية الفرنسية، ليشكل منطقة تأتي في سياق المشروع الاقتصادي الاستعماري، حيث انتشرت معامل للصناعة الغذائية كثمار الزيتون وفاكهة المشمش، لكن معظمها انقرض باستثناء بعضها الذي لا يزال يقاوم وينتظر أن يغادر هذا الحي.
فما مصير هذه المنطقة، التي شكلت حيا صناعيا وفر مناصب الشغل لسكان عدة أحياء بمدينة مراكش؟ وإلى أي حد يمكن الحديث عن الحفاظ عليه كذاكرة صناعية للمدينة الحمراء؟ وكيف يمكن المزج بين استثمار عقاراته، والحفاظ على هويته الاقتصادية؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن إعادة هيكلته بشكل يتماشى مع رؤية حديثة؟ وما هي أهم مرتكزات تصميم التهيئة القطاعي لهذا الحي؟ من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة، فتحت هسبريس ملف الحي الصناعي القديم، فكان هذا الربورتاج.
الحي الصناعي والتصدير
عن هذا الحي يقول الباحث محمد أيت لعميم: “الحديث عن الحي الصناعي يجرنا إلى تسليط الضوء على تاريخه ومسوغات وجوده، فمع دخول الحماية الفرنسية سنة 1912 واستقرارها بمراكش، ستتخذ من جبل جليز الذي يطل عليها مكانا للمراقبة والتحكم فيها، والبقاء بعيدا عن أهل المدينة العتيقة، لذا كان أول ما قام به قادة الاستعمار هو بناء حي عسكري أسفل هذا الجبل، تلاه إحداث تجمع سكني حديث يحمل اسم حي جليز، سيقطنه الفرنسيون والأوروبيون”.
وأضاف المتحدث نفسه، الذي رأى نور الحياة بـ”الديور الجداد”، أن “المعمر الفرنسي حاول أن يمارس مجموعة من التحديثات التي شملت عدة مجالات، من قبيل قطاع الفلاحة، باستصلاح أراض كثيرة لتوفير المواد الأولية للصناعة الغذائية. وفي سنة 1930 تقريبا شرع في إحداث حي صناعي بالجهة الغربية لمدينة مراكش لتصنيع المنتوج الفلاحي، الذي كانت تنقل مواده الأولية من إقليم الحوز والضيعات الفلاحية، التي كانت تشكل حزاما أخضر، لتزويد السوق الأوروبية”.
ولتوفير اليد العاملة لهذا الحي، الذي كان يتشكل من معامل أغلبها كان متخصصا في تصبير وإعادة إنتاج ثمار الزيتون وفواكه المشمش، بنيت أحياء شكلت تجمعا سكنيا للعمال والعاملات، كدوار العسكر القديم ودوار عريب وسيدي امبارك وماشو، إلى جانب عمال آخرين كانوا يجلبون من أحياء أخرى كسيدي يوسف بن علي والمدينة العتيقة، مما أكسب هذه المنطقة الصناعية، التي بنيت بطريقة عقلانية، حركية دؤوبة، وهو ما شكل نواة للحركة النقابية، حسب شهادة الباحث نفسه لجريدة هسبريس.
وتابع أيت لعميم قائلا: “هذا الحي كان يضم مجموعة من المرافق تغطي كل مجالات الفلاحة، من معامل الزيتون والمشمش والمصبرات ومطاحن، وبالجهة الشمالية كانت توجد المجزرة الكبيرة، وسوق للبهائم كان يجذب تجار الأبقار والأغنام من كل ضواحي المغرب، ومعمل لإنتاج الحليب. كما كان يتوفر على سكة حديدية كانت تساهم في نقل المنتوجات الصناعية إلى موانئ المغرب لتصديرها إلى أوروبا”.
الشغل والوعي السياسي
وبعد الاستقلال، أحدث تجمع سكني يحمل اسم “الديور الجداد”، كانت تقطنه الفئة المتوسطة وجزء من العمال، مما جعل الحي الصناعي، الذي تعزز بمعامل جديدة في زمن حكومة عبد الله إبراهيم، يشكل نقطة جذب للتلاميذ وشباب المنطقة لقضاء فترة عطلتهم الصيفية الطويلة بمعامله بشكل مؤقت، وهو ما غرس فيهم قيمة الاعتماد على النفس، وساهم في تنمية الوعي بالصراع الاجتماعي وقضايا العمال وهمومهم، يورد أيت لعميم.
وحسب المصدر نفسه، فقد مكن هذا الحي الصناعي فئة من المغاربة من دخول مجال الصناعة، لكنه في الحاضر تحول إلى مشهد كئيب بعد نقل المعامل إلى المنطقة الصناعية سيدي غانم، لتصبح الأماكن مهجورة ومليئة بالأشباح، وتحكي الإهمال والتهميش، في وقت يجب الحفاظ على ذاكرتها. وطالب “بتخليد هذه المعامل التي تحول معظمها إلى عمارات بدون هوية، وأسواق كبيرة، إلى مسارح، وإحداث متحف يضم الآلات القديمة، يصبح مزارا لأهل المدينة وزوارها، مما سيضفي على الفضاء أفقا ثقافيا تنمويا ذا دينامية وجمالية”.
هناك تجارب
هذا المطلب الذي اقترحه أيت لعميم توجد نماذج منه في دول أخرى وبمدينة الدار البيضاء، التي خصصت المجزرة القديمة للجمعيات لتنظيم عدة أنشطة ثقافية وفنية بها، حسب أحمد سكونتي، أستاذ باحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، الذي أكد، في تصريح لهسبريس، أن الحي الصناعي القديم يدخل ضمن التراث المعماري للقرن 20، مضيفا أنه أضحى اليوم يضم معامل مهجورة في حالة غير لائقة، يمكنها أن ترمم وأن تستعمل استعمالات أخرى.
تنمية أراضي الحي
وعن الرؤية المستقبلية لهذا الحي، أوضح سعيد لقمان، مدير الوكالة الحضرية لمراكش، أن إدارته انتهت من
تصميم تهيئة قطاعي، هو الآن موضوع مداولات المجلس الجماعي، وعرض على أنظار العموم، سيخفف الضغط الذي يعرفه الحي الشتوي وشارع محمد السادس وعبد الكريم الخطابي بمقاطعة جليز، لأنه سيضم مراكز للأعمال ومرافق سكنية واقتصادية راقية، وشوارع عريضة ومحطات لوقوف السيارات، مما سيعطي دفعة اقتصادية ودينامية تجارية ستعزز مداخيل الجماعة الترابية، وتوفر مناصب للشغل.
وأضاف لقمان، في تصريح لهسبريس، أن “الحفاظ على ذاكرة هذا الحي يجب الاشتغال عليه من طرف وزارة الثقافة والشركاء لإحداث متحف للحفاظ على ذاكرة هذه المنطقة الصناعية، وللتذكير بالصناعات الغذائية التي عرفتها، بعدما تم إحداث مناطق جديدة بسيدي غانم وجماعة حربيل تامنصورت من أجل التنمية الصناعية، تتماشى مع تطور المدينة الحمراء، لخلق مناصب شغل جديدة في أنشطة مبتكرة لتنويع المجالات الاقتصادية لمدينة يقوم اقتصادها على السياحة والفلاحة”.
ومن أجل تنزيل هذه الرؤية التنموية، يضيف مدير الوكالة الحضرية لمراكش، لا يزال النقاش مفتوحا مع المكتب الوطني للسكك الحديدية، الذي تعود له ملكية 50 هكتارا بهذه المنطقة، للوقوف على رؤيته لاستثمار هذا العقار، من أجل ربط شمال هذا القطاع بجنوبه، مما سيسهل حركة السير والجولان.
الذاكرة عمل جماعي
من جهته، أوضح عبد اللطيف مارو أن “إحداث متحف بهذه المنطقة يضم ذاكرة الحي الصناعي، يحتاج إلى تضافر جهود كل المتدخلين والمسؤولين، لأن الوزارة مستعدة للقيام بواجبها، لإحداث متحف والإشراف على تدبيره، لكن هذا الأمر يحتاج إلى توفير عقار بهذا الفضاء، الشيء الذي يتطلب تدخل شركاء آخرين، من قبيل المؤسسات المنتخبة”.