مباشرة بعد نحر المغاربة الأضاحي، تنتقل هذه الأخيرة من الفضاء الواقعي إلى الفضاء الافتراضي الرقمي لتجتاح بعد عملية “السلخ” مصفوفة من الصور تضم أطبا متنوعة وأصنافا متعددة من الأكل على منصات ومواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري، في ما يشبه عملية “غزو بصري” يمارسه العديد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بالمغرب، بوعي أو بدونه.
وفي ظل عدم تمكن العديد من الأسر المغربية المعوزة والفقيرة من شراء الأضحية والاحتفال بـ”العيد الكْبير”، يطرح السؤال المتجدد عن مدى تغيّر “الهوية القيمية” لعيد الأضحى، وانزياحه التدريجي عن “أداء الشعائر ومقاصد العبادة” إلى التفاخر بين الناس، وتحوله ليصير عادة مجتمعية تظل غاية في حد ذاتها”، مع ما يثيره نشر تلك الصور المتباهية المرتبطة بالمناسبة من مشاعر الإحساس بالغبن والدونية وبث اليأس والحرمان في نفوس الفئات الهشة اجتماعيا واقتصاديا.
وإذا كان عيد الأضحى في السابق موعدا للتضامن الاجتماعي ومناسبة تساهم في تمتين أواصر التآزر والتآخي وتعزيز التراحم والتلاحم بين الأسر والعائلات المغربية وكذا الجيران في ما بينهم، فإنه قد صار خلال السنوات القليلة الماضية فرصة للتباهي والتفاخر والتظاهر بصور أفرغت المناسبة الدينية الأغلى على قلوب المغاربة من جوهرها القيمي ومضمونها الأخلاقي وقيمتها التعبدية بمقصد التقرب إلى الله وتقوية الشعور بما يعيشه الفقراء والمعوزون.
محسن بنزاكور، أستاذ علم النفس الاجتماعي، فسّر الأمر بأنه مسألة تتعلق بـ”تحول القيم في المجتمعات المعاصرة، وليس حكرا وقصرا على المغرب فقط، بل يشمل جميع الدول، خاصة العربية والإسلامية”، لافتا إلى “تغيّر القيم، لاسيما الدينية التي لم يعُد لها نفس المحتوى والغايات والمقاصد”.
وقال بنزاكور، في تصريح لهسبريس، “إننا نتحدث اليوم عن عيد الأضحى ونتفاخر به، لكن الأمر نفسه ينطبق على الدخول المدرسي، شراء الملابس، المأكولات… إذن هي مسألة قيم بالدرجة الأولى”، مسجلا أن “كل المجتمعات تخضع، منذ الأزل، لمنطق العلاقة الجدلية بين القيم والتكنولوجيا الحديثة التي أفرزت نوعا من العلاقة الأنانية مع الذات على حساب الآخر”، شارحا أنها “أفرزت القيمة الاستهلاكية الجديدة التي لا تدرك معنى الحياة إلا من خلال الاستجابة للرغبات والنزوات الذاتية وإن كان ذلك على حساب مشاعر الآخر”.
ووضع بنزاكور تحولات المجتمع المغربي في عيد الأضحى في سياق “وضعية اجتماعية صعبة” بصمتها أزمة “كوفيد-19″، مع ما رافقها من غلاء وتدهور المعيشة جراء تداعيات الحرب في أوكرانيا، وقال إنها “تفترض وجود نوع من الإحساس بالآخر (L’empathie)، بمعنى أن تكون لك القدرة على الإحساس بمشاعر الآخر وعلى الامتناع عن مس مشاعر الآخرين”، معتبراً إياها قيما تراجعت بشكل كبير أمام قيمة الذات والأنانية التي كانت أساسها الصورة، قبل أن يورد في هذا الصدد مثال التقاط “السيلفي” الذي يودي بالبعض إلى المغامرة والمخاطرة بالذات، واصفا ذلك بـ”تغلّب الآلة على إنسانية الإنسان؛ لأن الأصل فيما يميّز الإنسان هو قدرته على الامتثال لإنسانيته في كل الظروف”.
وخلص الباحث المغربي إلى أن الأمر يتعلق بـ”تغيّر قيمي على مستوى المجتمع العالمي، بينما ثقله علينا أكبر بحكم تميّزنا بقيم اجتماعية تضامنية ودينية اندثرت لتحل محلها الرغبة في الظهور والشهرة ومراكمة المشاهدات والإعجاب دون مراعاة لجرح مشاعر الآخرين”، خاتما بالقول إنه “صراع وتضارب بين قيمتيْن؛ قديمة تتضمن اعتبار الآخر، وقيمة جديدة ترفع من شأن الذات التي تظل هي المنتصرة في انتظار بروز خطاب مواز يعيد لإنسانية الإنسان والتضامن الاجتماعي مكانتهما المستحقة”.